الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فالإلحاد في اللغة: يعني الميل، فألحد الرجل إذا مال عن الطريق الصحيح. وفي الاصطلاح: فالإلحاد: صفة لكل من حاد وانحرف عن دين الله([1]).
والإلحاد قديم قدم الإنسان، فقد حكى الله عن الملحدين وقولهم أنه لا حياة إلا حياة الدنيا، وأنه لا يهلكهم إلا الدهر، وذلك في قوله عز و جل: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية:24].
وفي هذا بيان من الله عن أقوال الدهريين الكفار من مشركي العرب في إنكار البعث والحساب والجزاء، ومرادهم أنه ما من حياة إلا حياة واحدة، يولد فيها أناس/ ويموت فيها أناس، فلا بعث ولا نشور ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ﴾ أي لا يحيينا ويميتنا إلا الزمان ﴿وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ ﴾ أي ليس لهم فيما يقولونه علم عقلي أو نقلي ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ أي يتخرصون ويزعمون، وسيعلمون عاقبة ظنهم يوم يبعثون ويرجعون إلى الله([2]) فعلم من هذا أن الإلحاد ليس جديدا في هذا الزمان؛ بل هو معلوم من التاريخ، وهو نوعان:
الأول: اعتقاد الملحدين وكفرهم بما هو معلوم عقلا ونقلا أن للكون خالقا يسيره، وأن هذا الخلق والتسيير منه وحده لا شريك له معه، فعلم الإنسان أنه لا خالق إلا هو، قال جل في علاه: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ [الطور:35-37].
فقد جاء أبي بن خلف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي يده عظم رميم فتته وذراه في الهواء وهو يقول أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا ؟ فقال عليه الصلاة و السلام: (نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يحشرك إلى النار)([3]). فأبي بن خلف ومن على شاكلته من الطبيعين والماديين يعلمون أن الله هو الذي يحييهم ويهلكهم، وهو الله عز وجل الدهر، لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: (يُؤْذِينِي ابنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بيَدِي الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهارَ.)([4]).
وجماع ما ذكر أن هؤلاء يزعمون أنه لا حياة غير حياة الدنيا، وما كانوا ليقولوا هذا إلا بعد أن سيطر الشيطان على عقولهم فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وفي هذا قال الله عز وجل: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة:19].
النوع الثاني من الملحدين المتلبسين بثياب الانحراف، ونسبة الكون وما فيه إلى ما يسمونه الطبيعة.
وهذا النوع من الملحدين أخطر من سابقيهم وأوليائهم، ذلك أن الملحدين القدامى فئات قليلة لا تتعدى عقيدتهم المكان الذي هم فيه أما الملحدون الجدد فخطرهم يمتد بحكم الاتصال الإنساني إلى الآفاق، فيؤثرون على الناشئة في دور العلم، وفي وسائل الاتصال فكان من نتائج هذا الإلحاد، وجود ما يعرف به عبدة الشيطان، واعتقادهم أنه ينفع ويضر والغاية من إلحادهم إفساد عقيدة الإنسان المبنية على فطرته، فمن هؤلاء من جعل الشيطان ندا لله، ومنهم من يشركه في الوجود ومع أن هذه العقيدة لا تزال ضعيفة في بلاد المسلمين إلا أنه ينبغي الحذر مما يحدث في هذا الزمان، وذلك بتربية النشء على الفطرة والعقيدة الصحيحة.
فالحاصل: أن أسباب الإلحاد كثيرة وأهمها غياب التربية الصحيحة للنشأ وضعف تنشئتهم على الدين، ومع أن الإلحاد في بلاد المسلمين ليس ظاهرة ولله الحمد وإنما هو في الغالب عرض طارئ إلا أن من الواجب الاهتمام بالنشء ودحض شبه الملحدين وفسادهم.
هذا هو العلاج للتغلب على الدثار التي تحدث نتيجة إهمال تربية النشء والتهاون في هذه التربية.
أما الملحدون فقد وعد الله ووعده الحق في جزائهم جل في علاه: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].
[1] – ينظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس ج 5ص 236
[2] – التفسير المبين ج 8 ص 219.
[3] – أسباب نزول القرآن للواحدي ص 582 وتفسير البغوي ص 1095 وزاد المسير لابن الجوزي ص 1180، والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (٣٦٥٢) وقال: صحيح على شرط الشيخين.
[4] – أخرجه البخاري برقم: (7491)، ومسلم برقم (2246).