سؤالٌ مِن الأخ: م. أ. مِن الجزائر، يقول: هل تَصْدِيقُ الجِنِّي بما يقول عَمَلٌ سِحْرِيٌّ، حيث إنَّ بعض الرُّقاة الشَّرعيِّين يَتَحدَّثون مع المريض، ويَقُوْلون إنَّ الجِنِّي يَتكلَّم بِلِسانه، ويُصَدِّقونه؟

مَسُّ الجِنِّ ودخولهم في بَدَن الإنس وكلامهم عَلَى لسانه

الحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام عَلَى رسوله الأمين محمَّدٍ، وعَلَى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

لَعَلَّ القَصْد مِن سؤال الأخ مَعْرِفة ما إذا كان الجنِّي يَتكلَّم، وعن تَصْدِيق الرُّقاة له.

والجواب: أنَّ الحديث عن مسألة العَلاقة بَيْنَ الإنسِيِّ والجنِّي حديث قَدِيم، ويَتَمَحْوَر هذا الحديث حَوْل السُّؤال عما إذا كان الجنِّي يَنْفُذ أو يَدْخُل جِسْمَ الإنسِيِّ، وما كيفيَّة هذا الدُّخول؟ وفي هذا ذَكَر جماعة مِن العلماء حقيقة هذا الدُّخول، بمعنَى أنَّه يَتلبَّسه فيَتكلَّم كما لو كان صاحِبُه هو الذي يَتكلَّم، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حَنْبَل: (قلتُ لأَبِي إنَّ أقوامًا يقولون: إنَّ الجنِّي لا يَدْخُل بَدَنَ المصْرُوع، فقال: يا بُنَيَّ، يَكْذِبون، هو ذا يَتكلَّم عَلَى لِسانه)، وخالَف في ذلك قومٌ؛ فلا يَرَوْنَ دخول الجنِّي في جِسْمِ الإنسِيِّ، ومِن هؤلاء أبوبكر الرَّازي والجُبَّائي مِن المعتزلة([1]).

قلتُ: ومِن المهِمِّ القول بأنَّ وجود الجِنِّ حقيقِيٌّ، وأنَّ مَن يُنْكِر وجودَهم يُنْكِر القرآن؛ ففي كتاب الله أنَّهم أُمَّة، فمنهم المسلم ومنهم الكافر، ومنهم المؤْمِن ومنهم الفاسق، والآيات في كتاب الله عنهم واضِحَة كل الوضوح، فَهُمْ خَلْقٌ مِن خَلْقِ الله، قال -عزَّ وجلَّ- عنهم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] فدَلَّ ذلك عَلَى خَلْقهم ووجودِهم، وقد استَمَعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أثناء رُجُوعه مِن الطَّائف، فحَكَى اللهُ ذلك عنهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ [الجن: 1-2] إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: 19]، فالجِنُّ إذًا حقيقة لا يُنْكِرها مَن يؤمِن بالقرآن.

أمَّا تَلَبُّسهم بالإنس فمثار الجَدَل، فهناك مَن يَقُوْل بوجودهم وتَلَبُّسِهم بالإنس، وهناك مَن يَنْفِي ذلك، ولَعَلَّ المراد مِن تَلَبُّسِهم إثبات أذاهم الإنس؛ إمَّا بسبب ما يَلْقَونه مِن أذاهم، فيكون تَلَبُّسهم رَدُّ فِعْلٍ لما يُصِيبهم مِن الأذَى، أو يكون تَلُبُّسهم بسبب فِسْقِ شياطينهم، فلا يقال حينئذٍ بدخولهم في البَدَن، وإنَّما يتَخَبَّط الممسوس مِن أذاهم، كما قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275]، فلا يَعْنِي أن يكون الماسُّ داخِلًا في جَسَدِ الممسوس؛ فالعائِنُ مَثَلًا لا يَدْخُل في جِسْمِ المعْيُون، ولكن أذاه يَدْخُل في جِسْمِه فيتخَبَّط مِن المرض، وقد يموت بسبب العَيْن، ولا يَمْنع حينئذٍ أن يكون الماسُّ يَتكلَّم؛ لأنَّ الجِنَّ يَتكلَّمون ويَرَون الإنس، قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27].

فالحاصل: أنَّ الشَّيطان مِن الجِنِّ يَمَسُّ الإنسِيَّ، فيَكُون القَصْد مِن المسِّ الأذَى، أمَّا دخول الجنِّي في بَدَن الإنسِيِّ فمسألة مِن مسائل الخلاف([2]).

والله -تعالى- أعلم.

([1]) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، (19/12).

([2]) يُراجَع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، (19/9-65)، وزاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، (4/90-95).