سؤالٌ مِن الأخ: فَهِيم، يقول: هل يجوز تَصْدِير المخدِّرات إلى دُوَلٍ غيرِ إسلاميَّة؟ فهناك مِن العلماء مَن أَفْتَوا بأنَّ تَصْدِير المخدِّرات إلى غيرِ المسلمِين جائز، أفيدونا -بارك الله فيكم- فضيلة الشيخ.

تَصْدِير المخدِّرات إلى مَن هو عَدُوٌّ للإسلام

الحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام عَلَى رسوله الأمين محمِّدٍ، وعَلَى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فما ذكره الأخ السَّائل رُبَّما يقوله مَن يَعتقِد أنَّه يُدافِع عن الإسلام، بمَعنَى القيام بتهريب المخدِّرات إلى هذا العَدُوِّ أو ذاك، ورُبَّما يَدْفَع إلى القول بهذا ما يعانيه بعض أفراد المسلمِين مِن مُشْكِلات تتعلَّق بحياتهم وحوائجهم، واعتقادهم أنَّ هذا العَدُوَّ مسؤولٌ عن هذا، والمهُمُّ في المسألة حُكْم الإسلام في هذه الأقوال وما قد تُؤَدِّي إليه مِن أفعال، ففي هذه المسألة وجهان:

الأوَّل: أنَّ الله أَنزَل كتابه هُدَى ورحمة وبُشْرَى للعالَمين، وأَمَر فيه بالعَدْل في قوله -تعالى-: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]. وقوله -عزَّ ذِكْرُه-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: 90]. والعَدْل يَعْنِي تَكْلِيف العبد أن يَعْدِل في قوله وفعله، سواء ما مَناطه خاصَّته أو ما مَناطه عامَّته، ففي العَدْل بالقول قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]. وقال مخاطبًا نبيه ورسوله: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]. وأمَّا العَدْل في الفعل تحريم الاعتداء عَلَى العِبَاد فقال -تَقَدَّس اسمه-: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]. فالاعتداء محرَّم في ذاته وفي التَّعَدِّي به، وشاهِدُ هذا قِصَّة المرأة التي دَخَلَت النَّار بسبب هِرَّة ولم تُطْعِمها، ولم تتركها تَبْحَث عن طعامها([1])، وشاهِدُ هذا أيضًا مِن السُّنَّة فيما يَجِب أن يكون عليه المسلم حال الحَرْب، فلا يجوز في حال الحرب مع الكفَّار أن يُقصَد إلى طفلٍ أو امرأةٍ مِن الكفَّار فيقتله مادام لم يَحْمِل سِلاحًا عَلَى المسلمِين ولم يُعِن عَلَى قتالهم، كما رُوِيَ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال للجَيْشِ المسلم: ((انطَلِقوا بِسْمِ الله وبالله وعَلَى مِلَّة رسول الله، ولا تَقتُلوا شيخًا فانيًا ولا طِفْلًا ولا صَغِيرًا ولا امرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمَكم، وأَصْلِحوا وأَحْسِنوا إنَّ الله يُحِب المحسِنين))([2]). وَجاء في وَصِيَّة أبي بَكْر الصِّدِّيق -رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّه قال لِقائِدِ جَيْشِه: (وإنِّي مُوْصِيْكَ بِعَشْرٍ: لا تَقْتُلَنَّ امرَأةً، ولا صَبِيًّا ولا كبيرًا هَرِمًا ولا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا)([3]). ولَمَّا أَمَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بالعَدْل وحَرَّم الظُّلْم عَلَى نَفْسه وعَلَى عباده قال -عزَّ ذِكْرُه- في الحديث القُدْسِيِّ: ((يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وجَعَلْتُه بيْنَكُم مُحرَّمًا، فلا تَظَالَموا))([4]).

وقد تَوَعَّد الظَّلَمةَ بالعَذاب بقوله -تَقَدَّسَ اسمه-: ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 19].

الوَجْه الثَّاني: أنَّ الله أَرْسَل رسوله محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- رَحْمَةً للعالَمين، فقال -عزَّ ذِكْرُه-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. والرَّحْمَة مفهومٌ شامِلٌ أَساسُه التَّوحيد والأَمْن والسَّلام لكلِّ النَّاس، والعِبادُ أَمام هذه الرِّسالة صِنْفان: الأوَّل: المصَدِّق والمؤمِن بها، وهذا يكون مع المؤمنين الصَّادقِين، وصِنْفٌ يُنْكِر هذه الرِّسالة، إمَّا جهلًا وإمَّا ضَلالًا وطغيانًا، وهذا يكون مِن المنْكِرِين. ولكلٍّ مِن الصِّنفَين جَزاؤه حسب تصديقه وإنكاره، ولكن الصِّنف المكذِّب وإن بَدَا ضَالًّا إلا أنَّ التَّعامل معه يكون بالحسْنَى؛ رَغْبةً في هِدايته، والشَّاهِد فيه قول الله لنبيِّه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، وقوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]. فاقتَضَى هذا أنَّ الرَّحمة التي أَرْسَل اللهُ رسولَه بها رَحْمة القلب، وعدم الغِلْظَة في القول أو الفعل، كما تَشْمَل العفو وطَلَب الهِداية، والمشاوَرة فيما فيه نَفْعٌ للعباد كافَّة، كما تَشْمَل الرَّحمة الدَّعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحَسَنة.

هذا في عموم المسألة، أمَّا عن سؤال الأخ عن تَصْدِير المخدِّرات للأعداء، فالأصل أنَّ العلاقة بَيْن المسلم وغير المسلم تَقُوْم عَلَى المسالَمة والأَمْن والعَدْل ونَفْيِ الظُّلْم، أمَّا المسالَمة، ففي عدم الاعتداء مِن الجانبَين أيًّا كانت صِفَته قولًا أو فعلًا، والأصل فيه قول الله -تعالى-: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وقوله -جَلَّ في عُلاه-: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]. ولكنَّ الأَمْرَ بالقِسْط وعدم الاعتداء والمجادَلة الحَسَنة يتوقَّف عَلَى مُسالَمة الآخَر وعدم ظُلْمِه، وهذا واضحٌ في الآية التَّالية للأُولَى وهو قوله -تعالى-: ﴿إنَّمَا ينْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ [الممتحنة: 9]، وواضحٌ في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: 46]، وهذا هو الأصل في نامُوْسِ الحياة ومَسارِها، الأَمْن مع الأَمْن والسَّلام مع السَّلام.

إنَّ المخدِّرات عَدُوٌّ للإنسان في عمومه، وتَصْديرها أو تَهْريبها يُعَدُّ اعتداء عَلَى هذا الإنسان، والإسلام يُحَرِّم الاعتداء، سواء عليه أو عَلَى مختلف المخلوقات الأُخرَى؛ لأنَّ الإسلام دِينُ دَعْوة بالحُسْنَى ودِين أَمْن وسَلام، والذي يَعْتَقِد أنَّ تَصْدير المخدِّرات سِلاح ضِدَّ مَن يَظنُّهم أعداء يُخْطِئ كثيرًا؛ لأنَّه يُسِيء إلى الإسلام ويُبْعِد النَّاسَ عنه. ومُحارَبة العَدُوِّ المفترَض لا تكون بتَصْدير المخدِّرات وبقَتْل الأبرياء، وإنِّما تكون بالعِلْم والفِكْر وبَراءات الاختراع، في الصِّناعة والزِّراعة وغيرها، ومع كل ذلك الدَّعوة إلى الله بالحُسْنَى والقُدْوَة الحَسَنة، وهو ما كان يَفْعَله السَّلَف الصَّالح حين كانوا يَسْتَقْبِلون في حَواضِر المسلمِين في شَرْقهم وغَرْبهم طلاب العِلْم مِن أوروبا..

فالحاصِل: مِن كُلِّ ما ذُكِر أنَّه لا يجوز للمسلم تَصْدير المخدِّرات أو تَهْريبها بدَعْوَى الدِّفاع عن الإسلام. والله -تعالى- أعلم.

 

([1]) أخرجه البخاري، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، برقم: (3318)، (4/130)، ومسلم، كتاب: قتل الحيات وغيرها، برقم: (2242)، (7/43).

([2]) أخرجه أبو داود، كتاب: الجهاد، باب: في دعاء المشركين، برقم: (2614)، (4/256)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم: (450)، (2/325).

([3]) أخرجه مالك، كتاب: الجهاد، باب: النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو، برقم: (10)، (2/447)، وحكم عليه الشوكاني في نيل الأوطار بالإرسال، (7/293).

([4]) أخرجه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، برقم: (2577)، (8/16).