الحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام عَلَى رسوله الأمين محمَّدٍ، وعَلَى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فظاهر السُّؤال أنَّ الأخت تَسأل عن حكم المشاركة في المجالِس التي تُقام كُلَّ عامٍ للاحتفال بالمولد النَّبَوِيِّ، فهذه المسألة محلُّ تَنازُعٍ في الاجتهاد بَيْنَ رَأيَين:
الأوَّل: يَرَى أنَّ هذا الاحتفال مِن المستحدَثات، أو البِدَع التي لا أَصْلَ لها، فلَمْ يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أَمَر به ولا أَمَر به خُلَفاؤه أو صحابته أو التَّابعون لهم، وإنَّما حَدَث هذا الاحتفال في عهد المعِزِّ لِدِين الله الفاطمِي العُبَيدِي الباطنِي، مِن بَنِي عُبيد القَدَّاح، ومِن المعلوم أنَّ الدَّولة الفاطميَّة لم تَظهَر إلا في عام 322هـ، فلو كان هذا الاحتفال مشروعًا لكان مِن الخير الذي سُبِقوا إليه، ناهيك بأنَّ في هذا المجلس بِدَعًا وشِرْكِيَّات مما يَقْتَضِي تَرْكه. كما يَرَى هذا الرَّأي أنَّ محبَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكون في اتِّباع ما أَمَر به، واجتناب ما نَهَى عنه، وتعظيم رسالته والدَّعوة إليها والدِّفاع عنها، فهذا -كما يقول هذا الرَّأي- هو الحقُّ، وأنَّ الاحتفال لا يُغْنِي مِن الحقِّ شيئًا.
أما الرَّأي الثَّاني: فيَرَى أنَّ في الاحتفال بهذه المناسَبة تعظيمًا لِرِسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستِشْعار هَدْيِه، والتَّذكير بسُنَّته وجِهاده، وما جاء به مِن الرَّحمة، وما يَسْتَوجِبه هذا مِن التَّذكير بهذه المناسَبة، والإعلان للعالَمين أنَّ هذا الدِّين حَيٌّ، وأنَّ فيه هِدايتهم، وأنَّ في الاحتفال بهذا المولد دَعوة للعالَمين لمعرفة رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قلت: والأقوال والحُجَج في هذا كثيرة، والمهِمُّ بل الواجب عَلَى المسلم العمل بما جاءه عن رَبِّه في كتابه، وما جاءه عن رسوله محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- في سُنَّته، فما جاءه مِن ربِّه في كتابه بيِّن كل البيان، ومنه قوله -تعالى-: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]، ومَعْنَى وَصَّاكم: أَمَرَكم، وقوله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: 77]، والآيات في هذا المعنَى كثيرة. وأمَّا ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكثر مِن أن يُحْصَى، ومنه ما رواه عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: خَطَّ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطًّا بِيَدِه، ثُمَّ قال: ((هذا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا))، وخَطَّ خُطُوْطًا عن يمينِه وشِمالِه، ثُمَّ قال: ((هذه السُّبُل ليس منها سَبِيلٌ إلا عليه شَيْطانٌ يَدْعُو إليه))، ثُمَّ قَرَأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]([1])، وفي حديث العِرْباض بن سارِيَة -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: وَعَظَنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً وَجِلَتْ منها القلوب، وذَرَفَتْ منها العيون، قال: فقُلْنا: يا رسول الله، كأنَّ هذه مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فماذا تَعْهَدُ إلينا؟ فقال: ((أُوْصِيكُمْ بالسَّمْعِ والطَّاعة، فإنَّه مَن يَعِشْ منكم بَعْدِي فسَيَرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتِي، وسُنَّةِ الخُلَفاء الرَّاشِدِين المَهْدِيِّيْن مِن بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بها، وعَضَّوا عليها بالنَّواجِذ، وإيَّاكُم ومُحْدَثَات الأُمُور؛ فإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ))([2]).
هذه هِيَ سُنَّته -عليه الصَّلاة والسَّلام- وقد أَكَّدَها، فأَمَرَ أُمَّته بالتَّمَسُّكِ بها، ومَن فَعَلَ فقد أطاع اللهَ وأطاع رسولَه، ومَن أَعْرَض عنها أَعْرَض اللهُ عنه، وخَسِرَ الدُّنيا والآخرة.
هذا في عموم المسألة، أمَّا عن سؤال الأخت، فالظَّاهر أنَّه ليس لهذا الاحتفال أَصْلٌ في سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو سُنَّة خُلَفائه أو التَّابعين لهم، سواء في أقوالهم أو في أفعالهم، فهذا هو المرْجِع في قبول هذا الاحتفال أو عدم قبوله. والله -تعالى – أعلم.
([1]) أخرجه أحمد، برقم: (4142)، (7/207 -208)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، برقم: (6، 7)، (1/146).
([2]) أخرجه أبو داود، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، برقم: (4607)، (7/16)، والترمذي، أبواب: العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم: (2676)، (4/408)، وابن ماجه، أبواب: السنة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم: (42)، (1/28)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم: (2455)، (8/107).