الحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام عَلَى رسوله محمَّدٍ، وعَلَى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالآثار المتناقَلَة تَدُلُّ عَلَى أنَّ أهل القبور يَتزاوَرُون ويَتعارَفُون ويَعْرِفون عن أهلهم وما هُمْ عليه، وأنَّ هناك أرواحًا مَحْبُوسة وأرواحًا مُنَعَّمَة، وأهل الأرواح المنَعَّمَة يَتزاوَرُون ويَتذاكَرُون ما كان في الدُّنيا وما يكون مِن أهلها، فتَكُوْن كُلُّ روح مع رَفيقِها الذي هو مثل عملها([1])، وفي روايةٍ عن مَسْروق أنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا ما يَنْبَغِي لنا أن نُفارِقكَ في الدُّنيا فإذا رُفِعْتَ فوقنا فلَمْ نَرَكَ، فأَنْزَل الله -تعالى- قوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]([2])، وقال صَخْر بن راشد: رأيتُ عبدَ الله بن المبارك في النَّوم بعد موته فقلتُ: أليس قد مِتَّ؟ قال: بَلَى، قلتُ: فما صَنَع الله بكَ؟ قال غُفِر لي مغفرة أحاطَتْ بكُلِّ ذَنْبٍ، قلتُ: فسُفْيان الثَّوْرِي قال: بَخٍ بَخٍ، ذاك مع النَّبيِّين، قال: ذاك مع الذين أنعم الله عليهم مِن النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين وحَسُن أولئك رَفِيقًا([3]).
ولَمَّا مات بِشْر بن البَراء بن مَعْرُور حزنَتْ عليه أُمُّه حُزْنًا شديدًا، فقالتْ: يا رسول الله، إنَّه لا يزال الهالِك يهلك مِن بني سلمة (قبيلة بِشْر) فهل تتعارف الموتَى؛ فأُرسِل إلى بِشْر السَّلام؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نَفْسِي بِيَدِه يا أُمَّ بِشْر، إنَّهم لَيَتعارَفون كما تَتعارَف الطَّير في رُؤُوس الشَّجَر، وكان لا يهلك مِن بني سلمة إلا أن جاءت أُمَّ بِشْر فقالتْ: يا فلان، عليك السَّلام فيقول: وعليك، فتقول: اقرأ مِنِّي عَلَى بِشْر السَّلام([4])، وقد ذَكَرَ ابن أبي الدُّنيا مِن حديث سُفْيان عن عَمْرو بن دِينار عن عُبَيد بن عُمَيْر قال: أهل القبور يَتَوَكَّفُون([5]) الأخبار، فإذا أتاهم الميتُ قالوا: ما فَعَل فلان؟ فيقول: صالحٌ، ما فَعَل فلانٌ، يقول: صالحٌ، ما فَعَل فلانٌ، فيقول: ألم يأتِكُم أو ما قَدِم عليكم؟ فيقولون: لا، فيقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، سُلِكَ به غير سَبِيلنا([6]).
وفي بعض الآثار، أنَّ الأموات حين يَتَزاوَرُون يَفْرَحُون بما قَدَّمه لهم أهلهم مِن الدَّعاءِ والصَّدقةِ والبِرِّ، وشاهِدُه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا مات الإنسانُ انقَطَع عمله إلا مِن ثلاث: صَدَقة جارية، وعِلْم يُنْتَفَع به، وولد صالح يَدْعو له))([7]).
([1]) انظر: الروح، لابن القيم، (1/44-55).
([2]) أخرجه ابن جرير، (7/214)، ابن أبي حاتم، برقم: (5577)، (3/997)، وقال القسطلاني في المواهب اللدنية، (2/581): “قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات”.
([3]) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات، برقم: (63)، ص: (49)، وأبو نعيم في الحلية، (6/385)،
([4]) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات، برقم: (14)، ص: (17)، وذكر ابن حجر في فتاوى العقيدة بأن له شاهدًا قويًّا، ص: (54-55).
([5]) أي: يتطلعون، ويتوقعون، وينتظرون. انظر: العين، للخليل بن أحمد، (5/413)، والمحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده، (7/151)، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، (5/221).
([6]) أخرجه ابن أبي شيبة، كتاب: الزهد، باب: كلام عبيد بن عمير، برقم: (37737)، (19/479)، وأبو نعيم في الحلية، (3/271)، وقال ابن حجر في فتاوى العقيدة، ص: (56): “وهذا موقوف على عبيد بن عمير أحد كبار التابعين والإسناد صحيح إليه”.
([7]) أخرجه مسلم، كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم: (1631)، (5/73).