سؤالٌ مِن الأخت: م. ل. مِن الجزائر، يقول: ما حُكْم التَّبَرُّك بالقبور، وطَلَب العَوْن مِن أصحاب القبور بأن أُرزَق زوجًا صالحًا، وتَسْمِيَة صاحب القبر بالوَلِيِّ الصَّالح أو ما يُشْبِه ذلك؟

التَّبَرُّكُ بالقبور وطَلَبُ العَوْنِ مِن أصحابها

الحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام عَلَى نبيِّه ورسوله الأمين محمَّدٍ، وآله وصحابته أجمعين، أمَّا بعد:

فإنَّ التَّبَرُّك بالقبور مما ابْتُلِيَ به بَعْضٌ مِن عامَّة المسلمين، فهؤلاء يَذْهَبون إلى قبر مَن يَرَونه رجلًا صالحًا، فيُقِيْمون عنده أيَّامًا ويَذْبَحون القَرابِين، ويَطْلُبون العَوْن مِن صاحب هذا القبر ويَسْتَغِيثون به لِقَضاء حاجاتهم، أو يَطْلُبون شَفاعَته وما يُقَرِّبهم إلى الله، ويَعتقِد هؤلاء أنَّ لدَى صاحب هذا القبر النَّفع والضُّرَّ، ويَنْسُجون حوله الأقاويل والأساطير يَتداولونها، وإذا نَصَحهم النَّاصحون المشْفِقون عليهم مِن هذه الأفعال أَبْغَضوه وظَنُّوا فيه ظَنَّ السَّوء، ويَعْتقدِون أنَّ الذين ينادونهم يَمْلِكون النَّفع والضُّرَّ، هذه خُلاصةٌ لِما يفعله بعض البُسَطاء، وهم بلا شَك يَبحَثون عن الأجر والثَّواب عَلَى ما يفعلون، ولكنَّهم خالفوا الطَّريق الصَّحيح الذي رَسَمه الله -عزَّ وجلَّ- لعباده كما رَسَمه لهم نبيُّهم ورسولهم محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فالأصل أنَّ الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة بالله -عزَّ وجلَّ- وأنَّ العبادة في دِقِّها وجِلِّها لله -عزَّ وجلَّ- فلا معبود بحَقٍّ إلا الله، ولا يَمْلِك النَّفع والضُّرَّ إلا الله، ولا يُنْزِل الغَيْثَ إلا الله، ولا يَمْلِك الأَجْرَ والثَّواب إلا الله، قال -عزَّ ذِكْرُه-: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، وقال: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 163]، والشَّفاعة بِيَده -عزَّ وجلَّ- فلا يَمْلِك أَحَدٌ أن يَشْفَع لأَحَدٍ ولو كان نبيًّا أو رسولًا إلا بإذنه، وفي هذا قال -جلَّ في عُلاه-: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 44]، وقال -تعالى-: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255]، وقال -تعالى-: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 28]، وإخلاص الدِّين لا يكون إلا له وحده، قال -تَقَدَّس اسمه-: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3].

فمَن صَرَف العبادة لغيره فقد أَشْرَك، وعاقِبَة الشِّرْك العذاب الشَّديد والخُلُود فيه، وقد تَوَعَّد اللهُ بعدم المغفرة لمن يُشْرِك معه أحدًا مِن خَلْقه، سواء كان ذلك مِن مَلَك مُقَرَّب أو نبيٍّ ورسول مُرْسَل، فقال –سبحانه-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، وقال: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72]، وقال -جلَّ في عُلاه-: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].

والكلام في هذا يَطُول فاقتضَى ما ذُكِر أنَّ العبادة كلَّها لله -عزَّ وجلَّ- وأنَّ صَرْف أيَّ شيءٍ منها لغيره يُعَدُّ شِرْكًا أكبر.

أمَّا ما ذَكَرَتْه الأخت عن التَّبَرُّك بأصحاب القبور، فهؤلاء الأموات لا يملكون لأنفسهم نَفْعًا ولا ضرًّا بل إنَّهم يَتأذَّون بما يفعله هؤلاء مِن الشِّرك بهم، وعَلَى أهل العِلْم المخْلِصِين أن يُعَلِّموا هؤلاء أَمْرَ دِينهم؛ رَأْفَةً ورَحْمَةً بهم، مع أنَّ الواجب عليهم أن يَسألوا عن أمور دِينهم؛ لقول الله -تعالى-: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]؛ حتَّى تكون عبادتهم صحيحة، إلا أنَّ المسؤوليَّة تَقَعُ أيضًا عَلَى أهل العِلْم، وفي هذا قال الله -عزَّ وجلَّ- لنبيِّه ورسوله محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، فقد بَلَّغ -عليه الصَّلاة والسَّلام- الرِّسالة وأدَّى الأمانة، فعَلَى أتباعه مِن أهل العِلْم تَقَعُ المسؤوليَّة في تأكيد هذا البيان.

فالحاصل: أنَّ التَّبَرُّك بالقبور محرَّم، وأنَّ مَن فيها لا يَملِكون لأنفسهم نَفْعًا ولا ضرًّا، وأنَّ إشراكهم في العبادة بأيِّ صِفَةٍ يُعَدُّ شِرْكًا، وهذا مما حَرَّمه اللهُ وتَوَعَّد بعدم المغفرة فيه.

وعَلَى الأخت التي تريد الزَّواج أن تسأل اللهَ وحده، فهو المتصرِّف في خَلْقه يَعْلَم سِرَّهم ونَجْواهم، ويَستجِيب دعاءهم، قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186].

نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزق الأخت وأخواتها المسلمات الأزواج الصَّالحين والذُّريَّة الصَّالحة.