الحمد لله ربِّ العالَمين، والصَّلاة والسَّلام عَلَى رسوله الأمين محمَّدٍ، وعَلَى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فظاهر سؤال الأخت عن الدَّليل في تحريم البِناء عَلَى القُبور أو كَراهَته، ولعلَّ قَصْدها بِناء القُبَب عَلَى بعض قُبور مَن يُسَمَّوْن بالأولياء الصَّالحين، والسُّؤال عن تحريمها أو كَراهَتها. هكذا فَهِمْنا السُّؤال. والجواب: أنَّ السُّنَّة في بِناء القَبْرِ أن يكون مرتفِعًا عن الأرض قَدْرَ شِبْرٍ فقط، والدَّليل عليه مِن السُّنَّة ما رواه أبو الهيَّاج الأسَدِيِّ، قال: قال لي عَلِيُّ بن أبي طالب: ألا أَبْعَثُكَ عَلَى ما بَعَثَنِي عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ((أن لا تَدَع تِمثالًا إلا طَمَسْته، ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيته))([1]) والدَّليل عليه أيضًا حديث هارون -أنَّ ثُمامَة بن شُفَيٍّ، حدَّثه قال: كُنَّا مع فَضَالَة بن عُبَيد بأرض الرُّوم برودس، فتُوُفِّيَ صاحبٌ لنا، فأَمَرَ فَضَالَةُ بن عُبَيد بقَبْرِه فسُوِّيَ، ثُمَّ قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يَأْمُر بِتَسْوِيَتِها))([2]).
والدَّليل الآخر إجماع الأُمَّة في سَلَفِها وخَلَفِها عَلَى أنَّه لا يجوز رَفْع القبر عن الأرض أكثر من شِبْرٍ([3])، وهو ما ذهب إليه أصحاب الإمام مالك([4])، وأصحاب الإمام الشَّافعي([5])، وأصحاب الإمام أحمد([6]).
وفي هذا قال الإمام الشَّافعي: “أُحِبُّ أن لا يُزاد في القبر تُرابٌ مِن غيره، وليس بأن يكون فيه تُراب مِن غيره بأس، إذا زِيْدَ فيه تُراب مِن غيره ارتَفَع جِدًّا، وإنما أُحِبُّ أن يُشْخَصَ عَلَى وَجْهِ الأرض شِبْرًا أو نحوه، وأُحِبُّ أن لا يُبْنَى، ولا يُجَصَّص، فإن ذلك يُشْبِه الزِّيْنَة والخُيَلاء، وليس الموتُ مَوْضِع واحدٍ منهما، ولم أَرَ قبور المهاجرين والأنصار مُجَصَّصَة، وقد رأيتُ مِن الوُلاة مَن يَهْدِم بِمَكَّة ما يُبْنَى فيها، فلَمْ أَرَ الفقهاء يَعِيْبُون ذلك”([7]).
قلتُ: والغالِب أنَّ مَن يَبْنِي عَلَى القبور هم الجَهَلة والبُسَطاء والسُّذَّج، الذين يَعْتَقِدُون أنَّ مَن في القبور يَنْبَغِي تعظيمه؛ لأنَّه سيكون شافِعًا بقُرْبِهم إلى الله زُلْفَى؛ كما قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، ومِن المؤْسِف أنَّ بعضًا مِن الذين يَدَّعون العِلْم، يُشَجِّعون هؤلاء البُسَطاء عَلَى بناء القبور وتَعْلِيَتِها، إمَّا جهلًا بأحكام الدِّين الذي يَدَّعونه، وإمَّا هم أنفسهم يريدون تَعْلِيَة قبورهم.
وإنَّ مَن يَنْظُر اليوم إلى القُبَب المبْنِيَّة عَلَى أَضْرِحَة مَن يُسَمَّون بالأولياء، يَشْهَد الذَّبْح عند هذه القُبَب، كما يَشْهَد مَن يَطْلُبون الشَّفاعة مِن أصحابها، والاستعانة بهم عَلَى قضاء الحوائج، والاستعاذة بهم مِن الشُّرور، وما هذا إلا مِن عَمَل الشَّيطان وأعوانه، وهو بكل المعاني مخالِفٌ لِدِين الله، وهو مِن الشِّرك الذي حَرَّمه ووَعَدَ بِعَدَم مغفرته.
هذا في عموم المسألة، أمَّا عن سؤال الأخت، فالقبور لا تُجَصَّص ولا يُبْنَى عليها أكثر مِن شِبْرٍ مِن الأرض، وإنَّ بِناء هذه القُبب مُحَرَّم.
أمَّا إذا كان العبد يريد أن يَزُوْرَ والدَيْه للدُّعاء لهم والاستغفار لهم، ويَدْخُل المقبرة وهو خاشِع مُسْتَذْكِر للآخرة، ويريد أن يُعْلِمَ قَبْرَيهما، كما فَعَل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين عَلَّم قبر عثمان بن مَظْعُون فلا بأس من ذلك، وإن كان لا يستطيع هذا التَّعْلِيم إلا بالكتابة عَلَى القبر فلعلَّه لا حرج في ذلك إن شاء الله. والله -تعالى- أعلم.
([1]) أخرجه مسلم، كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر، برقم: (969)، (3/61).
([2]) أخرجه مسلم، كتاب: الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر، برقم: (968)، (3/61).
([3]) انظر: شرح الخرشي على مختصر خليل، (2/129)، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير، (1/560)، وجواهر الإكليل، لصالح الآبي الأزهري، (1/111).
([4]) انظر: شرح الخرشي على مختصر خليل، (2/129)، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير، (1/560)، وجواهر الإكليل، لصالح الآبي الأزهري، (1/111).
([5]) انظر: الشرح الكبير، للرافعي، (5/223-224)، وتحفة المحتاج، لابن حجر الهيتمي، (3/173)،
([6]) انظر: المغني، لابن قدامة، (3/435-436)، والإقناع، للحجاوي، (1/233)، ومنتهى الإرادات، لابن النجار، (1/423).