رسالة في الزيادة( ) التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية، وما إذا كانت تجوز للمسلم.

رسالة في الزيادة التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية

الأخ الدكتور/ سيد جهانكير مدير مركز اللغة العربية بمعهد اللغات في مدينة حيدرآباد في الهند.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد تسلمنا كتابكم الأخوي الذي تشيرون فيه إلى أن مسلمي الهند يتبعون المذهب الحنفي، وقد تباينت آراء العلماء هناك حول الزيادة البنكية التي ينص عليها القانون الهندي، فمنهم من يرى جوازها، ومنهم من يرى عدمه، وتسألون عن الرأي الراجح في ذلك، بصرف النظر عما تطرق له الفقهاء في الماضي عن مسألة دار الحرب، ودار الإسلام.

نشكركم أولًا على رسالتكم، وعلى مشاعركم الإسلامية، ونرجو لكم ولإخوانكم في المركز الثبات، وأنتم في بلد كبير تحافظون فيه على دينكم، كما نرجو لكم ولإخوانكم في المركز التوفيق في جهودكم العلمية، وندعو الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.

أما سؤالكم فقبل الجواب عنه تحسن الإشارة بإجمال إلى نظرة الإسلام إلى المال، وحكمه في الربا؛ لأن السؤال الذي يطرحه من لا يعرف حقيقة الإسلام هو: لماذا حرم الإسلام الربا؟، وما العلة في تحريمه؟، وقد يكون الجواب عن هذا سهلًا، فيقال: إن الله حرمه لأنه وسيلة يستغل بها الإنسان القوي الإنسان الضعيف؛ لكونه زيادة على البيع الذي أحله الله في قوله  -عز وجل-: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقد يقال: إن الله حرمه لأنه عمل من أعمال الجاهلية، وقد حرم الله هذه الأعمال لفسادها، وقد يقال: إن تحريم الربا حكم رباني، قضى الله به على عباده، فليس لهم خيار فيه؛ لأن الله -تعالى- قال في محكم كتابه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

وأيًّا كان التعليل أو التأويل فإن الإسلام لما حرم التعدي على المال نظر إليه على أنه وسيلة لحياة الإنسان، ووسيلة لحياة الأمة، وليس وسيلة للجمع والكنز، وقبل أن نبحث هذه الوسائل بإيجاز سنبحث كذلك بإيجاز تحريم التعدي على المال.

لا مراء في أن من طبيعة الإنسان حب المال، وقد أخبر الله عن هذه الطبيعة في قوله  -عز وجل-: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34]، وقال -جل ثناؤه-: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [سورة الفجر: 20]، وقال -تعالى-: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]، وحتى لا يؤدي هذا الطغيان إلى اعتداء الإنسان على مال الآخر نهى الله نَهْيَ تحريم عن هذا التعدي، فقال -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 188]، وقال  -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]، وقال -جل ثناؤه-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وقال -تقدست أسماؤه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [التوبة: 34]، ففي هذه الآيات عدة أحكام:

أولها: أن الله حرم أكل المال إذا كان من طرق غير مشروعة كالربا، أو القمار، أو الخداع، أو الغصوب، أو سلب الحقوق، أو انتقاصها، أو الرشا، أو الكذب، ونحو ذلك من الأعمال غير المشروعة.

وثانيها: أن الله نص على أموال اليتامى بحكم خاص بسبب ضعفهم، وعدم قدرتهم على الدفاع عن حقوقهم؛ فاقتضى ذلك التشديد في عقوبة من يتعدى على أموالهم.

وثالثها: أن الله وصف هذا الأكل بالباطل، أي: الزائف الزائل.

ورابعها: أن الاستثناء وقع فقط على التجارة المبنية على التراضي، وما عدا ذلك يعد تعديًا وظلمًا يجازى عليه صاحبه.

وخامسها: نعت الله للأحبار والرهبان بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وذلك لأنهم كانوا يأكلون أموال متبوعيهم بما يفرضون عليهم من الضرائب والأجور والرسوم بحجة حمايتهم لدينهم، والتقرب إلى الله بما يفعلونه، مع مخالفتهم في ذلك لأوامر الله، وصدِّهم أتباعَهم عن اتباع الدين الصحيح.

هذا في كتاب الله، أما في سنة رسوله فقد حذر -عليه الصلاة والسلام- أمته في حجة الوداع من التعدي على الدماء والأموال والأعراض، فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)([1])، وهذا يدل على حرمة المال، وكون التعدي عليه دون حق من أشد الحرمات وأعظمها عند الله.

المال وسيلة لحياة الإنسان:

المال ليس غاية في ذاته، أو صفته، أو كثرته، وإنما هو وسيلة لحياة الإنسان ذاته؛ لتحقيق رغباته المشروعة، فهو ملزم حكمًا بالإنفاق على نفسه من ماله، وهذا الإلزام قائم، ليس لأنه مشروع فحسب، بل قائم -أيضًا- بحكم الضرورة لحفظ النفس، بوصف هذا الحفظ من الضرورات الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة، وأسوأ أنواع البخل أن يبخل الإنسان بماله على نفسه، فيكون بذلك آثمًا؛ لأنه آثر المال عليها؛ مما يتعارض مع الغاية منه، وهو ملزم -أيضًا- بالإنفاق على ولده، ومن تلزمه نفقته، ومن أسوأ أنواع البخل -أيضًا- أن يبخل بماله على ولده، فيكون بذلك آثمًا؛ لقول رسول الله -ﷺ-: (كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته)([2]).

والمال في حياة الإنسان ليس لضروراته فحسب، بل لزينته ومتعته، فهو زينة فيما أحل الله، وقد سماه الله بهذا الاسم في قوله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 64]، وقوله -عز وجل-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ولكن هذه الوسيلة في نوعيها: الضروري وغير الضروري محكومة بالوسطية والاقتصاد في إنفاق المال؛ لأن الإسراف فيه يعد ضياعًا وتبذيرًا له، ناهيك بأن الإسراف فيه وسيلة للبحث عنه بأي وسيلة، ولو كانت غير مشروعة، وهذا هو ما نهى الله عنه في قوله -عز وجل-: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف: 31].

وإذا كان المال وسيلة لحياة الإنسان في فرديته، فهو وسيلة وضرورة لحياة الأمة في عمومها؛ لأن الله  -عز وجل-لما أراد من عباده أن يعمروا الأرض في قوله -عز وجل-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] أراد منهم أن يسعوا فيها لتوفير معاشهم في حياتهم؛ عملًا بقوله -عز وجل-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]، وقوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15]، فالأمة بهذا مأمورة بالعمل من أجل الحصول على المال، ولكن الغاية منه تختلف عن تلك التي يتبناها الفكر الاقتصادي المادي المعاصر، وهي إشباع الرغبات من متع الحياة.

الإسلام ينظر إلى المال للأمة على أنه وسيلة لحماية العقيدة، ويتمثل هذا في مدافعة الأعداء، كما في قول الله -عز وجل-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وقوله -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]، وقد عرف المسلمون الأوائلُ المعنى من المال؛ فأبو بكر -رضي الله عنه- كان ينفق أمواله في سبيل الله، فيشتري المستعبدين والمعذبين من الرجال والنساء في مكة، فيعتقهم، فقال له أبوه أبو قحافة: يا بنيَّ! إني أراك تُعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك أعتقت رجالًا جُلْدًا يمنعونك، ويقومون دونك؟، فقال له أبو بكر: يا أبت! إنما أريد ما أريد([3])، فنزل فيه قول الله -تعالى-: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5-7]، ولم يكن هذا شأن أمية بن خلف أحد مشركي قريش، فقد بخل بماله، واستغنى به لنفسه، فنزل فيه قول الله  -عز وجل-: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى. وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 8- 11].

وكما كان أبو بكر يبذل المال لحماية العقيدة كان عثمان-رضي الله عنه-يهدي ثلاثمئة بعير بأحلاسها وأقتابها لجيش المسلمين([4])، وكان تجار الصحابة يفعلون ذلك لأنهم يرون أن من وظائف المال حماية العقيدة([5]).

والإسلام ينظر إلى المال على أنه وسيلة للعدل والإحسان، وهذا هو معنى قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} إلى قوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ} [التوبة: 60]، كما ينظر إليه على أنه وسيلة لمواساة المحرومين، والمنقطعين، ومن لا يستطيعون الكسب، وهذا هو معنى قول الله -عز وجل-: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، وقوله -جل ثناؤه-: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُوم * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} [المعارج: 24-25].

وفي الإجمال ينظر الإسلام إلى المال على أنه لمصلحة الأمة كلها، مما يسمى في علم التنمية المعاصر “تنمية الأمة” بما يشمل مرافق حياتها من طرق، وجسور، وتربية، وتعليم، وتطبيب، ونحو ذلك مما تحتاجه الأمة وأجيالها في مراحل حياتهم.

وكما ينظر الإسلام إلى المال على أنه وسيلة لحماية العقيدة، ووسيلة للعدل والإحسان والمواساة والتنمية في عمومها، ينظر إليه على أنه وسيلة للإنفاق في الوجوه المشروعة، وليس وسيلة للكنز، وقد ورد الأمر بالإنفاق في آيات كثيرة من كتاب الله، منها: قول الله -تعالى-: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، كما ورد البيان فيه بأن الإنفاق مما يتضاعف به الأجر، وذلك في قول الله -تعالى-: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} [البقرة: 261]، وقوله -جل ثناؤه-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265].

وقد جاء الذم لكنز المال وجمعه في عدة آيات، فتارة ورد النص صراحة على المآل والعذاب الذي سيؤول إليه من يكنزونه، ولا ينفقونه في سبيل الله، كما في قول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُون} [التوبة: 34- 35]([6]).

وتارة ورد النص على سوء فعل الذين يجمعون المال لمجرد الجمع، والتفاخر به على غيرهم، واعتقادهم أن قوتهم تكمن فيه، وأنه سيمكن لهم في الأرض، ويمنع عنهم العذاب، وقد ذكر الله عددًا من هؤلاء، منهم: الوليد بن المغيرة المخزومي الذي كان له مال، فعتا وطغى، وكان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، وليس لي من العرب نظير، فقال الله فيه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا} [المدثر: 11-12] إلى قوله -تعالى-: {سَأُصْلِيهِ سَقَر} [المدثر: 26]، ومن هؤلاء: الأخنس بن شريق، وقيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: جميل بن عامر الثقفي، فقد كان هذا جامعًا للمال، مكثرًا منه، معرضًا به عن سبيل الله؛ فنزل فيه قول الله -تعالى-: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة. الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَه * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه} [الهمزة: 3]، ومن هؤلاء: أبو لهب عم رسول الله -ﷺ-، فلم يغن عنه ماله وكسبه وقوته، حيث توعده الله بالعذاب في قوله -عزوجل-: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب} [المسد: 2-3].

قلت: ولما كان المال وسيلة للإنفاق في سبيل الله، وفي مختلف الوجوه المشروعة، ومنها تنمية الأمة، فإن ذلك مما يتعارض مع الربا في غايته؛ لأن هذه الغاية جمع المال وكنزه، والعمل على زيادته، وقد دلت الوقائع المشهودة أن المرابين لا يضعون أموالهم إلا لأجل زيادتها، بأخذهم الزيادة على القروض المترتبة على المقترضين، الذين هم في غالبهم من الفقراء والضعفاء، وهو ما كان عليه العمل في الجاهلية؛ مما حرمه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد -ﷺ-.

ولا شك أن المال بهذه الصورة من الربا يتكدس في فئة قليلة من الناس، ولا تستطيع الأمة الاستفادة منه، وهذا هو المشاهد في بعض الدول التي يقوم نظامها على الربا، ففي بلد واحد في آسيا خمسة ملايين مدين يعدون في حكم الأرقاء لدائنيهم بسبب عجزهم عن سداد ديونهم، وفي بلدان أخرى يوجد ملايين من الناس يعيشون تحت خط الفقر، رغم أن هذه البلدان تعد من البلدان المتقدمة، ولا يخفى ما تعانيه اليوم دول متعددة من ديون تراكمت عليها بسبب زيادات القروض، ولن تستطيع هذه الدول الخلاص من هذه الديون إلا بعد خمسين أو سبعين سنة على افتراض تحسن ظروفها الاقتصادية، كما لا يخفى ما تعانيه اليوم معظم الشعوب من الفقر، والمجاعة، وتخلف التنمية بسبب النظام الربوي القائم على الاستغلال، وجمع وكنز المال لدى فئة قليلة من الأغنياء، ولهذا بين الله لرسوله محمد -ﷺ-أن المال يجب ألا يكون دُولة بين الأغنياء، فقال-تعالى-: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} [الحشر: 7]، والمقصود: ألا يكون الفيء الذي رده الله على رسوله من أموال الأعداء دُوْلةً، أي: متداولًا بين الأغنياء، قال الإمام القرطبي في معنى هذه الآية: “فعلنا ذلك في هذا الفيء كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفي منها -أيضًا- بعد المرباع ما شاء، يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية، فجعل الله هذا لرسوله -ﷺ- يقسمه في المواضع التي أمر بها، ليس فيه خمس”([7]).

قلت: هذا من حيث العموم عن نظرة الإسلام إلى المال، أما المسألة محل السؤال، وهي الزيادة البنكية التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية، وما إذا كانت تجوز للمسلم، فيرى الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن -خلافًا لأبي يوسف- جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب، كما يجوز بيعهم الميتة، والمقامرة معهم، واستدلا على ذلك بما ذكر عن مكحول([8]) عن رسول الله -ﷺ-أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب)([9])، وبما ذكر أن مشركي قريش قالوا لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قبل الهجرة حين أنزل الله: {الم* غُلِبَتِ الرُّوم * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1-4]، ألا ترى إلى ما يقول صاحبك؟، يزعم أن الروم تغلب فارسًا، فقال أبو بكر-رضي الله عنه-: صدق صاحبي، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا([10]) على أن نضع بيننا وبينك خطرًا، فإن غلبت الروم أخذت خطرنا، وإن غلبت فارس أخذنا خطرك؟، فخاطرهم أبو بكر -رضي الله عنه- على ذلك، ثم أتى رسولَ الله -ﷺ-، وأخبره، فقال: (اذهب إليهم، فزد في الخطر، وأبعد في الأجل)، ففعل أبو بكر -رضي الله عنه- ، وظهرت الروم على فارس، فبعث إلى أبي بكر أنْ تعال فخذ خطرك، فذهب وأخذه، فأتى النبيَّ -ﷺ- به، فأمره بأكله([11]).

وهذا القمار على هذا القول لا يجوز بين أهل الإسلام، وقد أجازه رسول الله -ﷺ- بين أبي بكر-وهو مسلم-وبين مشركي قريش؛ لأنه كان بمكة في دار الشرك، حيث لا تجري أحكام المسلمين، كما استدل الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بقصة ركانة، فقد قال هذا لرسول الله -ﷺ-وهما في أعالي مكة: هل لك أن تصارعني على ثلث غنمي، فقال رسول الله -ﷺ-: (نعم)، وصارعه، فصرعه إلى أن أخذ منه جميع غنمه، ثم ردها عليه تكرمًا منه([12])، وهذا دليل على جواز مثله في دار الحرب بين المسلم والحربي، والعلة في هذا: “أن مال الحربي مباح، ولكن المسلم بالاستئمان ضمن لهم ألا يخونهم، وألا يأخذ منهم شيئًا إلا بطيبة أنفسهم، فهو يتحرز عن الغدر بهذه الأسباب، ثم يتملك المال عليهم بالأخذ، لا بهذه الأسباب، وهذا لأن فعل المسلم يجب حمله على أحسن الوجوه ما أمكن، وأحسن الوجوه هذا القول”([13])، أي: القول بالتعامل بالربا في دار الحرب بين المسلم والحربي.

هذا ما مناطه التعامل بين المسلم والحربي في دار الحرب، أما بالنسبة للمسلمين في دار الحرب فلا يجوز بينهم إلا ما يجوز في دار الإسلام؛ لأن مال كل واحد منهم معصوم متقوم.

قلت: وهذا مجمل ما ورد في المذهب الحنفي باختصار([14]).

أما في مذهب الإمام مالك فقد قال عبد الملك([15]) من أصحاب الإمام مالك بما قال به الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد، أما عند الإمام مالك فلا يجوز الربا بين الحربي والمسلم في دار الحرب ولا في غيرها، فإن قال قائل: إن غير المسلم لا يخاطب بفروع الشريعة؛ فالمسلم مخاطب بها([16]).

وفي مذهب الإمام الشافعي: لا فرق في تحريم الربا بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حرامًا في دار الإسلام كان حرامًا في دار الحرب، سواءٌ جرى بين مُسْلِميْنِ، أو بين مسلم وحربي، وسواءٌ دخلها المسلم بأمان أم بغيره([17]).

وفي مذهب الإمام أحمد: يحرم الربا بين المسلم والحربي، وبين المسلمين في دار الحرب، كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام، وهو الصحيح في المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، ونص عليه الإمام أحمد، وقيل: لا يحرم الربا في دار الحرب، وأقرها الشيخ تقي الدين على ظاهرها([18]).

وقال بتحريم الربا في دار الحرب جمهور العلماء، ومنهم: الإمام الأوزاعي، وإسحاق، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة، كما أشير إليه.

قلت: والأصل تحريم الربا بين المسلم والحربي، وتحريمه كذلك في دار الحرب؛ للأسباب والأدلة الآتية:

الدليل الأول: أن الربا محرم في جميع الأديان السماوية بلا استثناء، فقد ورد في العهد القديم: “إذا أقرضت مالًا لأحد من أبناء شعبي فلا تقف منه موقف الدائن، لا تطلب منه ربحًا لمالك”([19])، “وإذا افتقر أخوك فاحمله، لا تطلب منه ربحًا ولا منفعة”([20]).

وقد خالف اليهود ذلك، فأجازوا أخذ الربا من غير اليهودي، مع عدم أخذه بينهم: “لا تقرض أخاك ربا فضة، أو ربا طعام، أو ربا شيء مما يقترض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا؛ لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك”([21]).

وقد ذمهم الله على ذلك في قوله -تعالى-: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} [النساء: 161]، حيث إنهم تأولوه بأنواع من الشبه والحيل، وقوله: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] أي: المال، الحرام، ويدخل فيه الربا.

أما في الديانة النصرانية فقد اتفق رجال الكنيسة على تحريم الربا، فأحدهم يقول: إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة، وليسوا أهلًا للتكفين بعد موتهم. وآخر يقول: إن من يقول: إن الربا ليس معصية يعد ملحدًا خارجًا عن الدين([22]).

أما في ديننا الإسلامي فالربا محرم في جميع صوره، والأصل في تحريمه الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول.

أما الكتاب: فقول الله -تعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون. يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 275-276]، وقوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278-279]، وفي هذه الآيات عدة أحكام:

الحكم الأول: أن الله وصف أَكَلَةَ الربا بأنهم لا يقومون من قبورهم أو يوم القيامة إلا كمثل قيام من مسه الشيطان، فأصبح مجنونًا تختلط مشيته، وتتعثر حركاته، فيكون هذا الوصف علامة له ينظر إليه الناس بها يوم بعثهم وحسابهم.

والحكم الثاني: نفي الوصف والمماثلة بين البيع والربا؛ ذلك أن المشركين من العرب كانوا يقولون: إن الربا أو الزيادة عند حلول الأجل شبيه بأصل الثمن الذي جرى الاتفاق عليه في أول العقد، فمن كان عليه دين عليه أن يقضيه، أو يزيد في الثمن، فأنكر الله ذلك، وحرمه، وكذَّبَ تأويلهم بوصفهم له بصفة البيع، فقال: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.

والحكم الثالث: أن من سمع قول الله في تحريم الربا، والتزم بهذا التحريم، وأعلن توبته منه، فإن الله سيعفو عما مضى من فعله، فإن عاد، ثم مات على تعاطيه بالربا فقد كفر، وأصبح من أصحاب النار.

والحكم الرابع: أن الله حكم -وحكمه الحق- بأنه يمحق الربا، أي: يُذهب بركته، وقد يكون هذا المحق ظاهرًا بما يحصل للمرابين من ذهاب أموالهم التي جمعوها من الربا، وقد يكون هذا المحق غير ظاهر بما يتعرض له المال من قلة البركة، وقد يكون هذا المحق مؤجلًا لصاحبه بما سوف يناله في الآخرة من العقوبة.

والحكم الخامس: العفو عما قد قبض من الربا، وعدم فسخه بعد نزول آيات التحريم، مع تحريم ما تمت العقود عليه قبل نزول هذه الآيات، وهذا هو معنى قول الله -تعالى-: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}.

والحكم السادس: وصف الله لمن لم يتب من تعاطي الربا بالمحارب له، أي: المعادي له ولرسوله، ولا شك أن معاداة الله ورسوله من أشد الذنوب والخطايا وأعظمها، وفي هذا قال-تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]، وقال -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّين} [المجادلة: 20].

وأما تحريم الربا في السنة فقد أكد رسول الله -ﷺ-تحريمه في حجة الوداع، حيث قال: (ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله)([23]).

والأحاديث في تحريمه وتعظيم هذا التحريم كثيرة، منها: ما رواه أبو جحيفة أن رسول الله -ﷺ-: لعن آكل الربا وموكله([24])، وفي رواية ابن مسعود: وكاتبه، وشاهده، وقال: (هم سواء)([25])، وما رواه أبو هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله -ﷺ-قال: (اجتنبوا السبع الموبقات)، ومنها: أكل الربا([26])، وما رواه ابن حنظلة غسيلِ الملائكة أن رسول الله -ﷺ-قال: (درهم ربا يأكله الرجل-وهو يعلم-أشد عند الله من ستٍّ وثلاثين زنية)([27]).

وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة في سلفها على أن الربا من أشد الحرمات، وأعظم الخطيئات، فقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قوله: “من كان مقيمًا على الربا، لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه”([28]).

وقد روي عن الإمام مالك أن رجلًا جاء إليه، فقال: يا أبا عبد الله! إني رأيت رجلًا سكران يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوفَ ابنِ آدمَ أشرُّ من الخمر. فقال له الإمام مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه، فلم أرَ شيئًا أشرَّ من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب([29]).

وفي رواية ابن وهب عن الإمام مالك أن العالية بنت أنفع زوجة أبي إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن إسحاق قالت: خرجت أنا وأم محبة إلى مكة، فدخلنا على عائشة-رضي الله عنها-، فسلمنا عليها، فقالت لنا: “ممن أنتن”؟، قلنا: من أهل الكوفة، قالت: فكأنها أعرضت عنا، فقالت لها أم محبة: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية، وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمئة درهم إلى عطائه، وإنه أراد بيعها، فابتعتها منه بستمئة درهم نقدًا، قالت: فأقبلتْ علينا، فقالت: “بئس ما شريتِ، وما اشتريتِ، فأبلغي زيدًا أنه أبطل جهاده مع رسول الله -ﷺ-إلا أن يتوب”، فقالت لها: أرأيتِ إن لم آخذ منه إلا رأس مالي؟، قالت: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ} [ البقرة: 275]”([30]).

ومن السلف من شدد في عقوبة الربا بوصف صاحبه محاربًا لله ولرسوله، فجعلهم بهرجًا (مستباحين) أينما ثقفوا([31])، أما ابن خويز منداد([32]) فيرى أن أهل بلد لو اصطلحوا على الربا استحلالًا كانوا مرتدِّينَ، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالًا جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله -تعالى-قد أذن في ذلك، فقال: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}([33]) [البقرة: 279].

وأما المعقول: في تحريم الربا فإن الله -سبحانه وتعالى-لما خلق الإنسان على الأرض، وأمره بإعمارها، شرع له الأحكام التي تحكم وجوده، ومن هذه الأحكام: إقامة العدل، وتحريم الظلم، واستغلال الإنسان للإنسان، ولا شك أن الربا وسيلة مطلقة لاستغلال الضعفاء وظلمهم، حيث يوجد اليوم ملايين من البشر هم بمثابة الأرقاء عند دائنيهم؛ مما يتنافى مع ما شرعه الله للإنسان، فاقتضى هذا فساد الربا حكمًا وعقلًا؛ لمنافاته لأحكام الله وشرعه وحكمته في خلقه.

الدليل الثاني: ضعف المرجع في جواز الربا في دار الحرب:

الأساس -كما نعلم- في القول بجواز الربا في دار الحرب حديث مكحول عن رسول الله -ﷺ-أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب)، وهذا الحديث مرسل، وفي المرسل ومدى حجيته وقبوله كلام طويل، فالمشهور عند الأحناف صحته مطلقًا([34])، وقال به الإمام مالك والإمام أحمد وآخرون، وقد رده الإمام الشافعي وآخرون، قال الإمام النووي: “إن مذهب الشافعي، والمحدثين أو جمهورهم، وجماعة من الفقهاء: أنه لا يحتج بالمرسل إلا إذا انضم إليه ما يعضده”([35]).

والحجة في رد المرسل أنه “صح أن التابعين أو كثيرًا منهم رووا عن الضعيف، وغير الضعيف، فهذه النكتة عندهم في رد المرسل؛ لأن مرسله يمكن أن يكون سمعه ممن يجوز قبول نقله، وممن لا يجوز، ولا بد من معرفة عدالة الناقل، فبطل لذلك الخبر المرسل؛ للجهل بالواسطة، وقيل: ولو جاز قبول المراسيل لجاز قبول خبر مالك والشافعي والأوزاعي ومثلهم إذا ذكروا خبرًا عن النبي -ﷺ-، ولو جاز ذلك فيهم لجاز فيمن بعدهم إلى عصرنا، وبطل المعنى الذي عليه مدار الخبر”([36]).

والحجة -أيضًا- لدى من رده: أن المسلمين أجمعوا على أن الشهادة لا يجوز فيها إلا الاتصال والمشاهدة، فكذلك الخبر يحتاج من الاتصال والمشاهدة إلى مثل ما تحتاج إليه الشهادة؛ إذ هو باب في إيجاب الحكم واحد([37]).

هذا من حيث حجية المرسل عمومًا، أما حديث مكحول فذكر الإمام الزيلعي الحنفي أنه غريب، قال: وأسند البيهقي في المعرفة في كتاب السير عن الشافعي قوله: قال أبو يوسف: إنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله -ﷺ-أنه قال: (لا ربا بين أهل الحرب -أظنه قال:- وأهل الإسلام). قال الشافعي: وهذا ليس بثابت، ولا حجة فيه”([38]).

وقال فيه الإمام ابن قدامة: “ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن، وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه؛ بخبر مجهول (حديث مكحول) لم يرد في صحيح، ولا مسند، ولا كتاب موثوق به”([39]).

وخالف في ذلك من المتأخرين المحدث ظفر أحمد العثماني التهانوي، فيرى أن قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن أقوى ما يكون رواية ودراية، وليس مبناه على مرسل مكحول وحده، بل له على ذلك دلائل عديدة قوية، وله سلف فيه من إبراهيم النخعي في جواز الربا في دار الحرب، ووافقه على ذلك سفيان الثوري.

ثم يستدرك، فيقول: “مع ذلك فلا شك في كون التوقي عن الربا أحسن وأحوط وأزكى وأحرى؛ خروجًا من الخلاف، وهو الذي ذهب إليه شيخنا حكيم الأمة([40])، وأفتى به، واختاره ترجيحًا لقول أبي يوسف والجمهور”([41]).

قلت: وأما قصة رهان أبي بكر مع المشركين فقد قيل: إن رسول الله -ﷺ-قال لأبي بكر: (هذا سحت، فتصدق به)([42])، ولو فرض أن رسول الله -ﷺ-أجازه على قول من قال بذلك، فهذا كان قبل نزول تحريم الرهان في قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 90].

وفي هذا السياق روي عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-أنه وقع للمشركين جيفة في الخندق، فأعطوا بذلك للمسلمين مالًا، فنهى رسول الله -ﷺ-عن ذلك([43])، وهذا دليل على تحريم التعامل بما هو محرم، سواءٌ أكان بين المسلمين وغيرهم، أو بين المسلمين أنفسهم؛ لأن العلة في المنع هي فساد المحل الذي يتم التعامل فيه.

وما ينطبق على مسألة أبي بكر مع المشركين ينطبق على مسألة ركانة، فقد كان هذا من أشد الناس قوة في جسمه؛ فطلب من النبي -ﷺ-أن يصارعه على ثلث غنمه، وقال: يا محمد! إن صرعتني آمنتُ بك، فصارعه رسول الله -ﷺ-، فصرعه عدة مرات، فأسلم على الفور، وقيل: إنه أسلم عام الفتح، وقد رد عليه رسول الله -ﷺ-غنمه كلها([44]).

والاستدلال بهذه القصة-كما هو في قصة أبي بكر-رضي الله عنه-أن ركانة كان مشركًا، وقد راهنه رسول الله -ﷺ-في مكة، وهي ما زالت تحت المشركين، فاقتضى هذا جواز الرهان مع المشركين في ديارهم، وما يجوز فيه الرهان في دار الشرك يجوز فيه الربا.

ويرد على هذا أن هذه الحادثة كانت قبل نزول تحريم الرهان، ولم يكن هدف نبي الله الحصول على غنم ركانة، بل كان هدفه أن يبين أن قوة الإسلام المتمثلة في جسده-عليه الصلاة والسلام-تصرع الوثنية والشرك المتمثلة في جسد ركانة، ولهذا رد-عليه الصلاة والسلام-غنمه تكرمًا منه، وما كان رسول الله ليفعل ذلك إلا لهذا السبب، مع كرهه -عليه الصلاة والسلام- لهذا الرهان حتى قبل نزول تحريمه؛ بوصفه وجهًا من وجوه الميسر، وعملًا فاسدًا من أعمال الجاهلية.

الدليل الثالث: أن الربا محرم لعينه وغايته، وهذا التحريم يشمل أي صفة يكون عليها، والمحرم يبقى على تحريمه في إطلاقه، ما لم يستثن منه، وليس هنا استثناءٌ، ولا يتأثر هذا التحريم بالزمان أو المكان، فنحن حين نقول: إن الزنا محرم؛ ندرك حكمًا وعقلًا أن الله حين حرمه أراد حماية عباده من الفحشاء، واختلاط الأنساب، والأمراض، وإذا خفيت هذه الحكمة على أناس بحكم جهلهم بحقيقة مراد الله فقد شاهدوا أثرها في هذا الزمان من خلال انتشار الأمراض القاتلة في مرتكبي الفواحش من الزناة ونحوهم.

ولما كان الزنا محرمًا لعينه وغايته كالربا فليس من المعقول أن يقال بتحريمه في مكان، وإباحته في مكان آخر، أو إباحته بين ناس، وتحريمه بين آخرين، أو بين أهل دين وبين أهل دين آخر؛ لأن الله -تعالى-لما وضع الأحكام والشرائع أراد أن يحكم بها سلوك عباده جميعًا، وهذا الحكم لا يمكن تجزئته، ولما كان الخمر-أيضا-محرمًا لعينه ولغايته فلا يمكن لعاقل أن يقول: إن هذا النوع منه جائز، وذاك النوع الآخر منه محرم؛ لأن الحكم فيه وفي أصنافه وأنواعه واحد، وهكذا في مختلف الأحكام الأخرى.

الدليل الرابع: أن الدار لا تعد دار حرب في المذهب الحنفي إلا بالشروط الآتية:

  • أن تجري أحكام الشرك فيها على الاشتهار.
  • ألا يحكم فيها بحكم أهل الإسلام، فلو أجريت فيها أحكام المسلمين وأحكام أهل الشرك فلا تعد دار حرب.
  • ألا يتخلل بينهما بلدة من الإسلام.
  • ألا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمنًا بأمانه الأول الذي كان ثابتًا قبل استيلاء الكفار، للمسلم بإسلامه، وللذمي بعقد الذمة([45]).

وبحكم هذه الشروط تعد الهند متصلة بدار الحرب في بعض الجهات، وبدار الإسلام في بعضها الآخر([46])، فلا تنطبق عليها إذًا هذه الشروط، وبالتالي لا مجال للقول بجواز الربا فيها بين المسلمين وغيرهم.

ويجدر القول -أيضا-: إن مسألة دار الحرب ودار الإسلام في هذا الزمان لم تعد كما كانت، فما من دولة غير إسلامية إلا وتتصل في الغالب بدار الإسلام، ويأمن فيها المسلم على نفسه، ناهيك بما أصبح في هذا العصر مما يحكم الدولَ من عهود ومواثيق، أصبحت بموجبها الدول مسالمة لبعضها، فلا محل إذًا للاستشهاد بهذه المسألة.

وعلى هذا فإن الزيادة التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية مما يعد في حكم الربا المحرم، لا فرق في ذلك بين بلد إسلامي وغير إسلامي.

إشكالية الاستثمار:

القول بتحريم الربا الذي تتعامل به البنوك أيًّا كان موقعها، وأيًّا كانت هويتها يدفع بالمسلم العادي إلى التساؤل عما يفعل بماله المودع في هذه البنوك، هل يتخطى حاجز التحريم رغم معرفته بعظم أمر الربا، أو يترك ماله تستثمره البنوك، وتستحل زيادته، وقد تُصْرفُ هذه الزيادة فيما يعود عليه وعلى أمته بالضرر؟.

إشكالية لا مناص من حلها، وقد رأى فريق من الفقهاء المعاصرين هذا الحل في أخذ الزيادة، والتصدق بها رغم أن الصدقة لا تحل إلا من طيب المال، وربا البنوك ليس منه، ويجد هذا الرأيُ حجته في الواقع، وفي المآل، أما الواقع فهو ما يجب التعامل معه بهذا الحل رغم بساطته حتى تتبين الأمةُ مخرجًا من هذا الواقع، وأما المآل فإن أخذ هذه الزيادة سينفع الأمة إذا تم التصدق به على فقرائها، أو جمعياتها.

وقد أخذ بهذا الرأي مجلس مجمع الفقه الإسلامي في منظمة المؤتمر الإسلامي في جوابه على استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بما يأتي: “بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية:

يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المنجرَّة من إيداعاته؛ ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث، وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات المالية للدول الأعضاء، وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس، وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية”([47]).

ومع أن هذا الحل يساعد في حل إشكالية الواقع في مسألة الربا، إلا أنه لا يساعد في حل إشكالية الاستثمار، فليس الإشكال مجرد مئات أو آلاف من الدراهم يستثمرها صاحبها في البنك، ويأخذ زيادتها، ويتصدق بها؛ وإنما هو مليارات من الدراهم تتكدس في مختلف البنوك في البلاد غير الإسلامية، وقد يكون مجرد إرشاد أصحابها إلى التصدق بها غير كاف لإقناعهم.

وخلال السنوات الماضية نشأ في بعض البلاد الإسلامية بنوك وضعت لكل استثماراتها معايير تعتمد على أحكام الشريعة الإسلامية، كالمضاربة والمرابحة وغيرها، وجريًا في البحث عن احتواء أصحاب المال ذوي الحساسية من الإيداع أو الاستثمار في البنوك التي تتعامل بالربا أنشأت هذه البنوك أقسامًا خاصة للخدمات المصرفية، تعتمد في استثمارها على أحكام الشريعة الإسلامية، مع إخضاع هذه الخدمات لرقابة لجان شرعية مكونة من ذوي الاختصاص في الشريعة الإسلامية.

ومع أن البنوك الإسلامية وأقسام الخدمات المشار إليها القائمة في البنوك التي تتعامل بالربا لا تزال في طور التجربة، فإنها تلاقي إقبالًا من بعض المستثمرين، ومع أن الحكم على هذه التجربة قد يستغرق زمنًا طويلًا إلا أنها بلا شك تعد خطوة رائدة في سبيل البحث عن سبل للاستثمار، تبتعد في المآل عن هذه البنوك الربوية، وتفتح للإنسان -أيًّا كانت ديانته- آفاقًا يتخلص بها من الربا الذي أرهقه، بعد أن تدرج معه منذ ثلاثة آلاف سنة وكان السبب في فقره وبؤسه.

إن الإخوة مسلمي الهند وغيرهم من المسلمين الذين يواجهون إشكالية الاستثمار في البنوك التي تتعامل بالربا، ربما يجدون أن عليهم التعايش مع تجربة البنوك الإسلامية إن وجد منها شيء في بلدهم، أو في بلاد أخرى، ويبقى على فقهاء الأمة وخبراء الاقتصاد الإسلامي فيها عبء كبير في تطوير الصيغ الشرعية التي يطمئن من خلالها المسلم إلى أنه سيجد لماله مجالًا حلالًا وآمنًا ومربحًا لاستثماره.

وخلاصة ما سبق ذكره ما يأتي:

– أن الله حرم التعدي على المال، وجعل التعدي عليه مساويًا للتعدي على الدم والعرض، والأصل في ذلك قول رسول الله -ﷺ-في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام).

– أن المال ليس غاية في ذاته أو صفته أو كثرته، وإنما هو وسيلة لحياة الإنسان؛ لتحقيق رغباته المشروعة.

– وكما أن المال وسيلة وضرورة لحياة الإنسان فإنه -أيضًا- وسيلة مهمة لحياة الأمة في عمومها؛ لأن الله -عز وجل- لما أراد من عباده إعمار الأرض أراد منهم أن يسعوا فيها؛ لتوفير معاشهم في حياتهم، وقد عرف المسلمون الأوائل المعنى الشرعي للمال بوصفه وسيلة للعدل والإحسان، ووسيلة للمواساة، ووسيلة لحماية الدين، ووسيلة للمصالح العمومية للأمة.

– أن الإسلام حرم كنز المال، والتفاخر به، أو الطغيان بسببه، ولهذا فإن مراد الإسلام منه يتنافى مع الربا في غايته؛ لأن غاية الربا هي جمع المال وكنزه، والعمل على زيادته، وقد دلت الوقائع المشهودة أن المرابين لا يضعون أموالهم إلا لأجل زيادتها بأخذهم زيادة على القروض المترتبة على المقترضين، الذين هم في غالبهم من الفقراء والضعفاء، وهو ما كان عليه العمل في الجاهلية مما حرمه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد -ﷺ-.

– أما الزيادة البنكية التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية فيرى الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن جواز أخذ الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب، ومذهب الأئمة: مالك والشافعي وأحمد على خلاف ذلك، وقال بخلافه -أيضًا- جمهور العلماء، ومنهم: الإمام الأوزاعي، وإسحاق، وأبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة.

قلت: والأصل تحريم الربا بين المسلم والحربي، وتحريمه كذلك في دار الحرب؛ للأسباب الآتية:

الأول: أن الربا محرم في جميع الأديان السماوية بلا استثناء، والأصل في تحريمه في الإسلام الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

الثاني: ضعف المرجع في جواز الربا في دار الحرب، وكل ما ورد فيه حديث مكحول، وهذا الحديث مرسل، وفي المرسل ومدى حجيته وقبوله كلام طويل، وقال الفقهاء عن هذا الحديث: إنه غريب ومجهول، لم يرد في صحيح، ولا مسند، ولا كتاب موثوق به.

الثالث: أن الربا محرم لعينه وغايته، وهذا التحريم يشمل أي صفة يكون عليها، والمحرم يبقى على تحريمه في إطلاقه، ما لم يستثن منه، وليس هنا استثناء، ولا يتأثر هذا التحريم بالزمان أو المكان، فحين نقول: إن الزنا محرم ندرك حكمًا وعقلًا أن الله حين حرمه أراد حماية عباده من الفواحش، واختلاط الأنساب، والأمراض، ولما كان هذا محرمًا لعينه وغايته كحال الربا فلا يقال بتحريمه في مكان، وإباحته في مكان آخر، ولا يقال -أيضًا- بإباحته بين ناس، وتحريمه بين آخرين، أو بين أهل دين وبين أهل دين آخر؛ لأن الله -تعالى-لما وضع الأحكام والشرائع أراد أن يحكم بها سلوك عباده جميعًا، وهذا الحكم لا يمكن تجزئته.

الرابع: أن الدار لا تعد دار حرب في المذهب الحنفي إلا بثلاثة شروط، هي: أن تجري أحكام الشرك فيها على الاشتهار، وألا يحكم فيها بحكم أهل الإسلام، وألا يتخلل بينهما بلدة من بلاد الإسلام، وبحكم هذه الشروط تعد الهند متصلة بدار الحرب في بعض الجهات، وبدار الإسلام في بعضها الآخر، فلا تنطبق عليها إذًا هذه الشروط، وبالتالي لا مجال للقول بجواز الربا.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن مسألة دار الحرب في هذا الزمان لم تعد كما كانت، فما من دولة غير إسلامية إلا وتتصل بالغالب بدار الإسلام، ويأمن فيها المسلم على نفسه، ناهيك بما أصبح في هذا العصر مما يحكم الدولَ من عهود ومواثيق.

وعلى هذا فإن الزيادة التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية مما يعد في حكم الربا المحرم، لا فرق في ذلك بين بلد إسلامي وغير إسلامي، وهذا ما عليه جمهور العلماء.

– أن القول بتحريم ربا البنوك أيًّا كان موقعها يدفع المسلم العادي إلى التساؤل عما يفعل بماله المودع في البنوك؟، وقد رأى فريق من الفقهاء المعاصرين أخذ الزيادة، والتصدق بها، أو الانتفاع بها في أغراض النفع العام، كما ذهب إلى ذلك مجلس مجمع الفقه الإسلامي في منظمة المؤتمر الإسلامي، ومع أن هذا الحل يساعد في حل إشكالية الواقع في مسألة الزيادة، إلا أنه لا يساعد في حل إشكالية الاستثمار، فليس الإشكال مجرد مئات من الدراهم يستثمرها صاحبها في البنك، ويتصدق بفوائدها، وإنما هو مليارات من الدراهم تتكدس في مختلف البنوك في البلاد غير الإسلامية.

– لقد نشأ خلال السنوات الماضية في بعض البلاد الإسلامية بنوك وضعت كل استثماراتها لمعايير تعتمد على أحكام الشريعة الإسلامية، كما أنشأت البنوك التي تتعامل بالربا أقسامًا خاصة للخدمات المصرفية، تعتمد في استثمارها على أحكام الشريعة، مع إخضاع هذه الخدمات لرقابة لجان شرعية.

– والإخوة مسلمو الهند وغيرهم من المسلمين الذين يواجهون إشكالية الاستثمار في هذه البنوك ربما يجدون أن عليهم التعايش مع تجربة البنوك الإسلامية إن وجد منها شيء في بلدهم، أو في بلاد أخرى.

– ويبقى على فقهاء الأمة وخبراء الاقتصاد الإسلامي عبء كبير في تطوير الصيغ الشرعية التي يطمئن من خلالها المسلم إلى أنه سيجد لماله مجالًا حلالًا، وآمنًا، ومربحًا لاستثماره.

وآخر الدعوى أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الأمين.

([1]) أخرجه مسلم في كتاب المناسك، باب حجة النبي-ﷺ-، صحيح مسلم بشرح النووي، ج8 ص182.

([2]) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك، وإثم من ضيعهم، أو حبس نفقتهم عنهم، صحيح مسلم بشرح الأبي، ج3 ص451.

([3]) السيرة النبوية لابن هشام، ج1 ص392 – 395.

([4]) سنن الترمذي، ج5 ص584.

([5]) كما تفيد الروايات التاريخية أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنفق ألفي درهم -وهي نصف ماله- في تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك. انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري، ج10 ص194- 197.

([6]) روى الإمام البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر-رضي الله عنه-، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟، قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله﴾، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان-رضي الله عنه-يشكوني، فكتب إليَّ عثمانُ أن اقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ الناسُ، كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيتَ، فكنتَ قريبًا. فذاك الذي أنزلني هذا المنزلَ، ولو أمَّروا عليَّ حبشيًّا لسمعتُ وأطعتُ. فتح الباري، كتاب الزكاة، باب ما أُدي زكاته فليس بكنز، ج3 ص319، برقم (1406).

([7]) الجامع لأحكام القرآن، ج18 ص16-17.

([8]) هو مكحول الشامي، أبو عبد الله، ثقة فقيه، مفتي أهل دمشق، وعالمهم في عصره، عداده في أوساط التابعين، من أقران الزهري، توفي سنة بضع عشرة ومائة. انظر: سير الأعلام النبلاء للذهبي، ج5 ص155-160، وميزان الاعتدال للذهبي، ج5 ص302-303، وتقريب التهذيب للحافظ ابن حجر ص545.

([9]) أخرجه الزيلعي في نصب الراية لأحاديث الهداية، ج4 ص44، وقال: “غريب .. وقال الشافعي ليس بثابت، ولا حجة فيه”.

([10]) المخاطرة معناها المراهنة، وخاطرتُه على مال: راهنته عليه، وزنًا ومعنًى. المصباح المنير للفيومي، ج1 ص173.

([11]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج3 ص408، وقد وردت قصة مخاطرة أبي بكر-رضي الله عنه-مع مشركي قريش بعدة روايات، منها روايتان في سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب “ومن سورة الروم”، ج5 ص320-322، برقم (3193، 3194).

([12]) أخرجه الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، ص216، برقم (378)، وقال: “حسن”.

([13]) المبسوط للسرخسي، ج13 ص57.

([14]) انظر: المبسوط ج13 ص75، وكتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني، ج7 ص132، وشرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني، والفتاوى الهندية للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، ج3 ص244.

([15]) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، الماجشون التيمي بالولاء، أصله من فارس، والماجشون لقب جده أبي سلمة، كان فقيهًا مالكيًّا فصيحًا، دارت عليه الفتيا في أيامه بالمدينة، وكان ضريرًا، أو عمي في آخر عمره، توفي سنة 212هـ. انظر: الأعلام للزركلي، ج5 ص305.

([16])  أحكام القرآن لابن العربي، ج1 ص516.

([17]) المجموع شرح المهذب للنووي، ج9 ص391-392.

([18]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي، ج5 ص53، والمغني لابن قدامة، ج6 ص98-99، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح، ج4 ص157.

([19]) الآية 25 من الفصل 22 من سفر الخروج.

([20]) الآية 35 من الفصل 25 من سفر اللاوين.

([21]) العهد القديم، الآية 20، من الفصل 23 من سفر التثنية.

([22]) العهد الجديد، نقلًا عن فقه السنة، للسيد سابق، ج3 ص282.

([23]) أخرجه مسلم في كتاب المناسك، باب حجة النبي-ﷺ-، صحيح مسلم بشرح النووي، ج8 ص182-183.

([24])  أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب ثمن الكلب، فتح الباري، ج4 ص497، برقم (2238).

([25]) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج5 ص498-499، برقم (1597).

([26]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الكبائر، وأكبرها، صحيح مسلم مع شرحه إكمال إكمال المعلم للأبي، ج1 ص325، برقم (89).

([27]) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ج5 ص225، والشيخ الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، وقال: “وهذا إسناد صحيح”، ص103، برقم (172).

([28]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج3 ص363.

([29]) جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي من تفسيره، ج2 ص8، والجامع لأحكام القرآن، ج3 ص364.

([30]) انظر: الجامع لأحكام القرآن، ج3 ص359.

([31]) وهذا رأي التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي الذي يرى أن الله أوعد أهل الربا بالقتل، انظر: الجامع لأحكام القرآن، ج3 ص363.

([32]) هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن خويز منداد، من فقهاء المالكية في العراق، المتوفى سنة 390هـ، من مؤلفاته: “اختيارات في الفقه”.

([33]) جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي من تفسيره، ج2 ص8، والجامع لأحكام القرآن، ج3 ص363.

([34]) مقدمة إعلاء السنن للتهانوي، ج19 ص52-56.

([35]) شرح النووي على صحيح مسلم، ج1 ص30.

([36]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر، ج1 ص9.

([37]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ج1 ص9.

([38]) نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي، ج4 ص44.

([39]) المغني لابن قدامة، ج6 ص99.

([40]) هو الشيخ أشرف علي التهانوي الملقب بحكيم الأمة، من فقهاء الحنفية في شبه القارة الهندية المتوفى سنة 1362هـ، من مؤلفاته: “قواعد في علوم الفقه”.

([41]) إعلاء السنن، ج14 ص414.

([42]) تفسير القرآن العظيم، ج3 ص408.

([43]) السيرة النبوية لابن إسحاق، ج2 ص88.

([44]) الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر، ج1 ص212-213.

([45]) حاشية ابن عابدين، ج4 ص174-175، والفتاوى الهندية للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، ج2 ص 256.

([46]) إعلاء السنن لظفر أحمد العثماني التهانوي، ج14 ص414.

([47]) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني ج2 ص527، والعدد الثالث ج1 ص77.