حكم من يستقدم عاملًا بحجة العمل لديه، ثم يتركه يعمل عند غيره مقابل أن يدفع له مبلغًا من المال لقاء كفالته له

حكم أخذ الكفيل مالا مقابل ترك العامل يعمل عند الغير

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين.

والجواب: لا يجوز له ذلك.

ويمكن تصور هذه المسائل في أن المُسْتقْدِمَ لا ينوي أصلًا التعاقد مع العامل في ظل أحكام الإجارة، وإنما ينوي استغلال رخصة الاستقدام التي منحتها له الحكومة خلافًا لأحكامها، والغرض منها، كما ينوي الاستفادة من العامل مستغلًّا بذلك حاجته.

ويقع هذا الفعل تحت حكمين من أحكام التحريم:

الحكم الأول: أكل أموال الناس بالباطل، وفي ذلك قال الله  -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 188]، وقال  -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29].

وهذا التحريم يشمل كل أنواع المكاسب المشوبة بالحيل، وإن بدت في ظاهرها شرعية، ومثل ذلك: إغراء الأجير المستقدم للقبول بالاستقدام، ثم استغلال جهده وعرقه، ومثل ذلك: بخسه حقَّه في الطعام أو الكساء إذا كان من ضمن شروط الإجارة، وفي ذلك قال الله  -تعالى-: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} [الأعراف: 85]، ومثل ذلك: تأخير أجرة الأجير، أو قسره على التنازل عن شيء منها، ونحو ذلك.

والحكم الثاني: مخالفة المُستقدِم لأغراض رخصة الاستقدام، فالمعروف أن هذه الرخصة تمنح لحاجته، فإذا استخدمها لغير هذه الحاجة فقد عصى أمر ولي الأمر، خلافًا لقول الله  -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59].

فإن قيل: فما الحكم إذا كان المستقدم يتفق مع العامل المستقدم بأجر شهري كخمسمئة أو ثمانمئة ريال، ثم يوجهه للعمل لدى الغير، فيأخذ الزيادة؟.

قلت: وفي هذا ينبغي التفريق بين حالتين:

الحالة الأولى: إذا كان المستقدم يضارب على العامل، بمعنى أنه قد عين له أجرًا محددًا يدفعه له باليوم أو الشهر أو السنة، ثم يوجهه لعمل في مقاولته هو أو عقده مع الغير، كما يفعله اليوم أصحاب مؤسسات المقاولة وأمثالهم ممن يبنون تصرفاتهم على المضاربة بما فيها من احتمالات الربح أو الخسارة، فهذا من الإجارة المشروعة والمعروفة بما لا نعلم فيه خلافًا.

الحالة الثانية: إذا استقدم العامل بأجر محدد كخمسمئة ريال مثلًا، ثم أجره على غيره بثمانمئة ريال، ففي هذا خلاف.

ففي المذهب الحنفي: يجوز للمستأجر أن يؤجر المؤجر، أي: ما استأجره بمثل الأجرة الأولى أو بأنقص، أما إن كان بأكثر فيتصدق بالفضل([1]).

وعند المالكية في ذلك خلاف، فمنهم من رأى أنه يجوز لمن استأجر أجيرًا لعمل من الأعمال، فله أن يرسله ليعمل للناس، ويأتيه بما عمل، أو يكريه في مثله، ومنهم من رأى أنه لا يلزم الأجير أن يكون هو الذي يؤاجر نفسه له، ويأتيه بالأجرة إلا أن يرضى بذلك، وهذا إذا استأجره في عمل غير معين، أما إن كان العمل معيناً كالقصارة، فينقله لقصارة([2]).

وفي المذهب الحنبلي: لا يجوز لمستأجر أن يؤجر المأجور حرًّا، كبيرًا كان أو صغيرًا؛ لأن يد غيره لا تثبت عليه، وإنما هو يسلم نفسه إن كان كبيرًا، أو يسلمه وليه إن كان صغيرًا([3]).

وقد تكلم الإمام ابن حزم على هذه المسألة، فذكر ما روي عن ابن عمر فيمن استأجر أجيرًا، فأجره بأكثر مما استأجره: أن الفضل للأول، وفي قول آخر: أنه كرهه، وقال: لم يجزه مجاهد، ولا إياس بن معاوية، ولا عكرمة، وكرهه الزهري، وميمون بن مهران، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وشريح، ومسروق، وغيرهم، وأباحه سليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، والحسن، وعطاء، ثم قال أبو محمد: “احتج المانعون من ذلك بأنه كالربا، وهذا باطل، بل هي إجارة صحيحة، ولا فرق بين من ابتاع بثمن، وباع بأكثر، وبين من اكترى بشيء، وأكرى بأكثر”.

قلت: ولعل الفقه الأوفق والأرحم للإنسان فيما ذكره المانعون، ويدرك هذا حقًّا وعدلًا إذا عرفنا أن الإنسان ليس مجرد بضاعة أو سلعة للمتاجرة، وإذا ساويناه بالدار التي تُكترى بمبلغ، ثم تكرى بأكثر منه، فإن ذلك سيعرضه للاستغلال؛ لأن الأجير الثاني سوف يستغل جهده بقدر المبلغ الذي دفعه أجرةً له، وإذا أجيز مبدأ تعدد الإجارة فإن هذا التعدد سيجعل من الإنسان سلعة مستهانة، بما يتعارض مع كرامته التي حباه الله بها، إضافة إلى أنه يتعارض مع رغبته وإرادته، رغم ما قد يُظهره من موافقته؛ لأن الإنسان بطبيعته لا يرضى لأحد استغلال جهده وتعبه بدون مردود له، وهو حين يقبل ذلك فإنما يقبله بحكم الحاجة أو القسر، ولهذا فإن في التنزه عن هذا الفعل براءة للذمة، وبعد عن الشبهة، ووقاية من الوقوع في الحرام؛ اتِّباعًا لقول رسول الله -ﷺ-: (فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه”([4]).

والله أعلم بالصواب.

 

([1]) حاشية رد المحتار على الدر المختار، ج6 ص91، وحاشيته على الدر المختار، ج4 ص49.

([2]) انظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، وبهامشه التاج والإكليل لشرح مختصر خليل، ج5 ص407، وانظر كذلك: منح الجليل شرح على مختصر سيدي خليل، ج7 ص461.

([3]) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع، ج3 ص565 وشرح منتهى الإرادات، ج2 ص361.

([4]) أخرجه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩)، أخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات، برقم (3984)، سنن ابن ماجة، ج2 ص1319.