الأرض وما فيها وما فوقها وما تحتها ملك لله -عز وجل-، كما قال -تعالى-: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [الاعراف: 128]، وقد جعل الله الأرض لعامة خلقه، وجعل فيها معايشهم وأرزاقهم، وسترهم بعد مماتهم، قال -تعالى-: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُون*وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِين} [الحجر: 19-20]، وقال -عز ذكره-: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 52-62]، واختصاص الأمم بأجزاء الأرض مما صنعه البشر أنفسهم؛ لاعتبارات اقتضتها وقائع حياتهم وأحوالهم، وهذا الاختصاص رغم إطلاقه إلا أنه لم يكن على مر الزمن مطلقًا؛ ذلك أن الإنسان ينتقل في الأرض من مكان إلى آخر، رغم ما قد يكون بينه وبين غيره من الفوارق في الجنس والدين واللغة.
وقد أخذ هذا التنقل، ولا يزال يأخذ أسبابا متعددة، منها: هجرة الإنسان فرارًا بدينه، كما حدث في الماضي للمسلمين الذين كانوا يلاقون الأذى في مكة، فأمروا بالهجرة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وكانت هذه الهجرة واجبة، كما قال الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 79]، وقد استثنى الله من هذا الواجب الضعفاء من النساء والولدان في قوله -عز ذكره-: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا* فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 89-99].
هذا في الكتاب، أما في السنة فقول رسول الله -ﷺ-: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)([1]).
وقد يكون فرار الإنسان بدينه على نحو آخر معاكس، فقد يكون هذا في بلد يدين بدينه، ولكنه يجد فيه من يضايقه، كما يقال اليوم بأن بلدًا من بلاد المسلمين يحدد سنًّا معينة لمن يذهب إلى صلاة الجماعة، بحيث لا يكون من فئة الشباب، وما يقال أو يحدث فعلًا من أن في بعض بلاد المسلمين من يضايق من يطلق لحيته، إما بمنعه من هذا الإطلاق، أو الاستهزاء به، أو جعله محلًّا للشبهة والريب، كما أن هناك من يضايق، بل يمنع المسلمة من حجابها، فهذا في حال وقوعه يعد في حال القدرة موجبًا للذهاب إلى بلد آخر للإقامة فيه، سواءٌ كان هذا البلد مسلمًا أم غير مسلم، طالما أن المسلم يجد فيه مأمنه على دينه، بل إن الإقامة في البلد غير المسلم الذي لا يحدث فيه مثل هذا الفعل أفضل من الإقامة في البلد المسلم الذي يحدث فيه؛ لأن العبرة هنا ليست في المسميات، بل في الحقائق والمسلمات، ومن هذه الأسباب: الفرار خوفًا على النفس من الهلاك، وقد يكون هذا الخوف نتيجة مرض يحل بالمكان، كما حدث للمسلمين الذين أصابتهم حمى المدينة، فأمرهم رسول الله -ﷺ-أن يخرجوا منها حتى يصحوا([2])، وقد يكون هذا الخوف نتيجة قوة طاغية، كما حدث لنبي الله موسى حين خرج من مصر إلى أرض مدين خوفًا على نفسه من فرعون، كما قال -تعالى-: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} [القصص:21]، ومن ذلك: ما يحدث للذين يعانون من مشكلات في بلادهم، فيخافون على أنفسهم، فيضطرون إلى الخروج منها طلباً للأمان.
ومن هذه الأسباب: الفرار أيام الأزمات والحروب، كما يحدث للأبرياء الذين يخافون على أنفسهم وأهليهم أيام الحروب والفتن، مما لا يستطيعون دفعه إلا بالفرار منها إلى بلاد آمنة، كما هو مشاهد اليوم من وجود الملايين من اللاجئين المسلمين وغيرهم المنتشرين في أنحاء العالم.
ومن هذه الأسباب: السفر بقصد الاتجار، وابتغاء المال، وهذا مما أباحه الله لعباده في قوله -تعالى-: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 891].
وقد عرف المسلمون في سابق عهودهم وحاضرها السفر إلى أقطار الأرض بغية الاتجار والاكتساب، وكان في الماضي سببًا في انتشار الإسلام كما حدث في آسيا وأفريقيا.
ومن هذه الأسباب: السفر لأجل طلب الرزق، (وهذا هو محل سؤال الأخ السائل)، فمن المعلوم أن الكثير من بلاد المسلمين ضاقت بأهلها، خاصة الشباب الذين لا يجدون في بلادهم سبلًا لكسب عيشهم، رغم علومهم وخبراتهم، فيضطرون للسفر إلى البلاد الغربية وغيرها، وهذا السفر لا حرج فيه طالما أن المسلم يأمن في هذه البلاد على دينه وأهله، بل قد يكون هذا السفر واجبًا لعدة أسباب:
منها: أن المسلم مطالب بالنفقة على نفسه ومن يعول، فسعيه في طلب رزقه يعد واجبًا عليه.
ومنها: أن المرء القادر لا يؤجر على الإقامة في بلد يصعب أو يتعذر عليه كسب رزقه فيها، إما لفقرها، أو لمانع لا علاقة له فيه.
ومنها:- أن السفر إلى البلاد غير الإسلامية قد يكون من باب الاحتساب والدعوة إلى الله، فالمسلم الذي يحترم عقيدته، ويلتزم بأخلاق الإسلام وآدابه يدعو غيره-ولو لم يشعر- إلى دين الإسلام، فالمسلمون الذين ذهبوا إلى آسيا وأفريقيا، والتزموا بالإسلام في سلوكهم جعلوا الوثنيين وغيرهم يدخلون أفواجًا في دين الله.
وأما سؤال الأخ السائل عن اكتساب الجنسية في البلد غير المسلم، فهذا الاكتساب لا إثم فيه إذا كان بقصد طلب الرزق لمن لا يتوافر له في بلاده، والعبرة في كل الأحوال أن المسلم يكون آمناً على دينه وأهله، بل قد يكون هذا الاكتساب -كما ذكر- محمودًا؛ لأنه وسيلة من وسائل الدعوة، وتكثير المسلمين في هذه البلاد، وإظهار الإسلام فيها، مع وجوب التعامل مع أهلها بما توجبه قواعد الإسلام وآدابه.
وخلاصة المسألة: أن السفر من أجل طلب الرزق من الأمور المحمودة، ولا جناح على المسلم الذي يسافر إلى بلاد غير إسلامية لطلب رزقه إذا ضاقت به السبل في بلاده، بل إن هذا السفر يكون محمودًا؛ لما قد يكون فيه من الاحتساب، والدعوة إلى الله، وتكثير المسلمين، وإعلاء شأن الإسلام بإبراز أخلاقه وآدابه في التعامل، كما أنه لا جناح على المسلم الذي يكتسب جنسية هذه البلاد إذا كان بقصد طلب الرزق إذا كان لا يتوافر له في بلاده، وما يجب على المسلم في كل الأحوال هو التأكد أنه في تلك البلاد يكون آمنًا على دينه ونفسه.
والله -تعالى- أعلم.
([1]) صحيح سنن أبي داود للألباني، ج2 ص105، برقم (٤٠٣٢).
([2]) فتح الباري، كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم، ومرابضها، ج1 ص400 – 407، وكتاب الطب، باب الدواء بأبوال الإبل، ج10 ص149-150.