المسألة أن شخصًا يزاول أعمالًا تجارية كثيرة، ومن ضمن تجارته تعاطي أمور محرمة كالربا، وقد اعتاد الحج كل عام اعتقادًا منه أن ذلك يكفر سيئاته وخطاياه. والسؤال عما إذا كان اعتقاده هذا صحيحًا؟.

حكم من كانت نفقة حجه من مـال حـرام.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وصحبه أجمعين، وبعد،،

فالجواب على هذا من وجهين: أولهما: حكم الحج إذا كانت نفقته من مال حرام، وقد رأى بعض الفقهاء أن هذا الحج يجزئ صاحبه، إلا أنه يأثم، وبعضهم رأى عدم صحة حجه، فعلى الرأي الأول: جاء في مذهب الإمام أبي حنيفة: ‏«‏أن الحج لا يقبل بالنفقة الحرام إلا أنه يسقط الفرض معها، ولكن لا يثاب صاحبه لعدم القبول‏»([1]). ‏وجاء أيضا: «ولا تنافي بين سقوطه وعدم قبوله فلا يثاب لعدم القبول ولا يعاقب في الآخرة عقاب تارك الحج‏»‏‏([2]).

وفي مذهب الإمام مالك قول إنه لا ثواب في الحج بالنفقة الحرام ولا يعد مقبولًا من صاحبه، وفي قول آخر أن هذا خلاف مذهب أهل السنة؛ لأن السيئة لا تحبط ثواب الحسنة فيثاب على حجه

 

ويأثم بإنفاقه، وعلى ذلك يصح حجه فرضًا كان أو نفلًا بإنفاق المال الحرام، ويسقط به طلب الفرض والنفل ويأثم صاحبه، ودلل من قال ذلك بأن من قاتل على فرس غصبه فله الشهادة وعليه المعصية أي أجر شهادته وإثم معصيته([3]).

وفي مذهب الإمام الشافعي مثل ذلك، فإذا حج بمال حرام أو ركب دابة مغصوبة أثم، وصح حجه واستدلوا على ذلك بأن الحج أفعال مخصوصة والتحريم لمعنى خارج عنها([4]).

وفي الصحيح من مذهب الإمام أحمد أن الحج من مال مغصوب لا يصح([5]).

قلت: والمعروف من دين الإسلام بالضرورة، أن المسلم ملزم أن يكون ماله حلالًا خال من المحرمات سواء منها ما كان بينًا، أو ما كان منها مشتبهًا فيه؛ لأن المال وسيلة الإنسان إلى طعامه، وشرابه، وملبسه، ومسكنه، ومن الواجب عليه أن تكون هذه الوسيلة مشروعة حتى يطيب ما يأكله ويشربه ويلبسه، وقد حرم الله المال الحرام في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، فحرم الربا في كافة صوره في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [آل عمران:130]، ووصف أكلة الربا بالذي يتخبطه الشيطان من المس في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، وحرم أكل أموال الناس بالباطل في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وحرم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3]، وحرم بالتالي كل ما يتبع ذلك من بيع أو شراء أو تداول هذه المحرمات، وأبان رسول الله ﷺ عاقبة آكل السحت وما ينتظره من الجزاء في قوله: (أيُّما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)([6]). وفي رواية أخرى: (إنه لا يربو لحمٌ نبت من سحت إلا كانت النار أولى به)([7]). واستبعد إجابة دعوة الداعي الآكل للحرام في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (.. أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)([8]).

وتحريم الحرام حكم عام يشمل كل ما جمعه صاحبه من طرق غير مشروعة وكل ما يبنى عليه من نفقة أو صدقة أو نحوهما يعد محرمًا، وسواء كان الإنفاق منه على أمر دنيوي أو ديني، بل هو في حق الله أشد وأعظم حرمة؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقد أوضح الله في كتابه العزيز وجوب الأكل والإنفاق من الطيبات في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين} [البقرة: 168]. وفي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة:267]([9]).

وعلى هذا فلعل الصواب -إن شاء الله- ما ورد في الصحيح من المذهب الحنبلي من عدم صحة الحج إذا كانت نفقته من مال حرام. والقول بهذا مبني على ظاهر ما جاءنا من الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ من وجوب البعد عن المال الحرام وشبهاته، وتطهير المطعم والمشرب والملبس.

أما قبول الحج عندما تشوبه شائبة أو ينقصه نواقص فعلمه عند الله، فهو أرحم بخلقه، وأعلم بأحوالهم وسرائرهم، وله الأمر وإليه يرجع الأمر في التجاوز عن خطاياهم، فقد وعدهم بمغفرة ذنوبهم ولم يستثن منها إلا الشرك به في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:116].

الوجه الثاني: اعتقاد الشخص أن تكراره للحج مع إصراره على المعصية يكفر عنه السيئات والخطايا، وهذا اعتقاد خاطئ إذا كان يجزم بذلك ويعتقده؛ لأن المكلف مأمور بالطاعة ومنهي عن المعصية، وارتكابه للمعصية يعد في حد ذاته مخالفة لما يُنْهى عنه، وإصراره على ذلك يعد معصية أخرى، أما إذا كان الشخص مدار المسألة يعتقد في عفو ربه في التجاوز عن سيئاته فأمره إلى الله، ويقع تحت مشيئته. وعلى كل حال فإن الإنسان مكلف باجتناب المال الحرام والتوبة من ذنوبه وخطاياه لعله يدخل في قول الله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:70]، وقوله تعالى: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71].

وخلاصة المسألة: أن الحج بنفقة من مال حرام كالربا ونحوه لا يصح، وهذا مبْنِيٌ على ظاهر ما جاء من الأحكام من كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد ﷺ، أما اعتقاد الشخص أن تكراره للحج يكفر عنه السيئات، فهو اعتقاد خاطئ إذا كان يجزم بذلك ويعتقده؛ لأن المكلف مأمور بالطاعة ومنهي عن المعصية، وارتكابه للمعصية يعد في حد ذاته مخالفة لما ينهى عنه.

والله تعالى أعلم.

([1]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج2ص456.

([2]) شرح فتح القدير لابن الهمام، ج2 ص407.

([3]) شرح منح الجليل لعليش، ج2 ص199، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي، ج2 ص10، وشرح الزرقاني، ج2 ص237، وبلغة السالك لأقرب المسالك لمحمد الصاوي، ج1 ص264، والفواكه الدواني للنفراوي، ج1 ص362.

([4]) المجموع للنووي، ج7 ص62-63.

([5]) الإنصاف للمرداوي، ج6 ص205-206، وانظر كشاف القناع للبهوتي، ج4 ص112، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي، ج2 ص422، ومطالب أولي النهى للرحيباني، ج4 ص62، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح، ج5 ص186-187.

([6]) أخرجه البرهان فوري في كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، برقم (3569)، ج12 ص527، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم، (١/٢٦٠): إسناده فيه نظر.

([7]) أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ذكر فضل الصلاة، برقم (614)، سنن الترمذي، ج2 ص512-513، صححه الألباني في صحيح الترمذي، (٦١٤).

([8]) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب كل نوع من المعروف صدقة، صحيح مسلم بشرح النووي، ج7 ص100، وأخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب تفسير سورة البقرة، برقم (2989)، سنن الترمذي، ج5 ص205.

([9]) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، ج2 ص456.