الأخت (أمينة) من الجزائر تقول:‏ إنها قد اشترت أثاثًا جديدًا وطلبت منها أختها إعطاءها الثلاجة القديمة، فوافقت، ولكنها رأت بعد ذلك أنها لا تستحق؛ لأنها ميسورة الحال، فأعطت الثلاجة لأمٍّ ذات أيتام، وتسأل الأخت عما إذا كانت قد أخلفت وعدها، وتريد النصيحة.

حكم الرجوع في الهبة

الهبة في اللغة: ‏إعطاء الشيء بلا عوض، وَهَبَ الرجلُ الشيءَ لآخر: أعطاه إياه([1]).

ولا يبعد تعريف الهبة في الاصطلاح عن تعريفها في اللغة، فقيل:‏ إنها تمليك المال بلا عوض في الحال([2]).

وقد ورد اسم الهبة في القرآن الكريم في قول الله  -تعالى-على لسان نبيه زكريا: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران: 38]، وفي امتنانه على نبيه إبراهيم قال-عز وجل-: ‏{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِين} [الأنبياء: 72].

والهبة أو الهدية المرادفة لها في المعنى مما تعارف عليه الناس في علاقاتهم -لا سيما بين الأقارب والأصدقاء- دلالة على المحبة وحسن العلاقة، وقد تطرق الفقهاء لأحكامها بالتفصيل، ونجتزئ منها ما يتعلق بالرجوع عنها.

ففي مذهب الإمام أبي حنيفة:‏ أن الرجوع فيها مكروه في الأحوال كلها، وأن العوارض المانعة من الرجوع فيها أنواع، منها:‏ هلاك الموهوب؛ لأنه لا سبيل للرجوع في قيمته؛ لعدم انعقاد العقد من البيع والهبة ونحوها، ومن هذه العوارض: موت الواهب، ولو أخرج بعضها عن ملكه فله الرجوع فيما بقي دون الزائد، ومنها: الزيادة في الموهوب زيادة متصلة له، سواءٌ كانت بفعل الموهوب له أم لا، وسواءٌ كانت متولدة أم غير متولدة منه، ومن هذه العوارض: العوض، ومنها: أن يتغير الموهوب بأن كان حنطة فطحنها، أو دقيقًا فخبزه، ومنها: الزوجية، فإذا وهب أحد الزوجين لصاحبه هبة، فلا يجوز له الرجوع وإن انقطع بينهما النكاح، ومن هذه الموانع: القرابة المحرمية، سواء كان القريب مسلمًا أم غير مسلم، فلا يرجع في الهبة بين المحارم كالآباء والأمهات والإخوان والأخوات من الرضاع، وكذا المحرمية بالمصاهرة كأمهات النساء والربائب وأزواج البنين والبنات، والأصل في المانع من الرجوع في الهبة فيما مناطه المحرمية أن صلة الرحم مما أمر الله به، واستدلالًا -أيضًا-بأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-منع الرجوع في هذه الهبة إذا كانت لذوي رحم([3]).

وفي مذهب الإمام مالك: ‏يجوز الرجوع في الهبة للأب والأم، فيرجع الأب والأم إلى ما وهباه لولدهما، واشترطوا لذلك خمسة شروط :‏ أولها: ألا يتزوج الولد بعد الهبة، وثانيها: ألا يحدث دينًا لأجَلٍ، وثالثها: ألا تتغير الهبة عن حالها، ورابعها: ألا يحدث الموهوب فيها حدثًا، وخامسها: ألا يمرض الواهب والموهوب. وإن وقع شيء مما ذكر لم يجز الرجوع، واختلف في رجوع الأم، فقيل: ترجع لولدها الصغير والكبير ما دام الأب حيًّا، فإن مات لم ترجع في هبتها بالنسبة للأولاد الصغار؛ لأن الهبة للأيتام كالصدقة، فلا يجوز الرجوع فيها([4]).

وفي مذهب الإمام الشافعي:‏ أن للأب الرجوع في هبته لولده، وقيل: إنما يرجع إذا قصد بهبته استجلاب بر، أو دفع عقوق يحصل، أما إن أطلق الهبة فلا رجوع له، وحال الأم والأجداد والجدات من جهة الأب والأم حال الأب، فلا رجوع لغير الأصول، كالإخوة والأعمام، وغيرهم من الأقارب، ويمنع الرجوع في الهبة من هؤلاء إذا خرج الموهوب من سلطة الموهوب له، وذلك بزوال ملكه عنه، كما لو باعه، أو أوقفه، أو وهبه، وأقبضه أو رهنه. ويجوز للأب الرجوع إذا غصب الموهوب، أو رهنه، أو كانت هبته قبل القبض أو إجارته؛ لأن هذا لا يزيل سلطة الولد الموهوب له. ويجوز للأب الرجوع إذا زادت الهبة زيادة متصلة، أما الزيادة المنفصلة فتكون للولد، وللأب الرجوع في أصل الشيء الموهوب([5]).

وفي مذهب الإمام أحمد:‏ أن غير الأب والأم لا يجوز له الرجوع في الهبة، وللرجوع في هبة الولد أربعة شروط:‏

الشرط الأول: أن تكون الهبة في ملك الولد فيها، فإن خرجت عن ملكه ببيع أو هبة أو وقف أو غير ذلك لم يكن له الرجوع فيها؛ لأنه إبطال لملك غير الولد، فأشبه غير الموهوب.

الشرط الثاني: أن تكون العين باقية في تصرف الولد، يملك التصرف في رقبتها، فإن أفلس، وحجر عليه، أو رهن العين؛ لأنه يفضي إلى إبطال من غير الولد، فإن زال المانع من التصرف فللأب الرجوع؛ لأن ملك الولد لم يزل.

الشرط الثالث: إذا تعلق بالهبة رغبة لغير الولد، مثل: أن يهب الأب ولده شيئًا يرغب الناس في معاملته ويداينونه، أو في تزويجه فيزوجونه، أو يهب بنته فتتزوج، فعن الإمام أحمد روايتان، أولاهما: ليس له الرجوع؛ لأنه غر الناس بما وهبه لولده، وثانيتهما: يجوز له الرجوع لعموم الخبر.

الشرط الرابع: إذا نقصت الهبة، أو زادت زيادة متصلة، لم تمنع الرجوع، والزيادة للولد الموهوب.

وعن الإمام أحمد روايتان:‏

الرواية الأولى: لا يجوز الرجوع؛ لأنها زيادة في الموهوب له؛ لكونها زيادة في ملكه، ولم تأته من والده.

الرواية الثانية: لا يمنع الرجوع؛ لأنها زيادة في الموهوب([6]).

وينبني على ما سبق ذكره اختلاف الفقهاء في مسألة الرجوع في الهبة، فمنهم من يرى أنه يجوز لكل واهب الرجوع في هبته، إلا ما وهبه لذي رحم محرمة عليه؛ استدلالًا بما رواه الإمام مالك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال:‏ من وهب هبة لصلة رحم، أو على جهة صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب بما هو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها([7])، ومنهم من يرى جواز الرجوع للأب، وعلى خلاف في حق الأم في الرجوع في هبتها، والحجة في ذلك ما روي عن رسول الله -ﷺ-أنه قال: ‏(لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد)([8])، ويقاس عليه حق الأم في الرجوع.

ومنهم من يرى عدم جواز الرجوع لأحد في هبته مطلقًا، والأصل فيه قول رسول الله -ﷺ-: (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه)([9])، وعامتهم على أن الهبة إذا أريد بها الصدقة فلا يجوز لأحد رجوع فيها.

قلت:‏ الهبة تكون بين الأقارب والأصحاب -كما ذكر-، ويراد بها في الغالب التواصل دلالة على المحبة، وحسن العلاقة بين الواهب والموهوب له، ولا علاقة لها بالفقر أو الغنى، والموهوب له قد لا ينتظرها من الواهب، وقد يكافئه عليها، فهي مبنية أصلًا على حسن الصلة، فإذا رجع الواهب في هبته فربما أفسد هذه الصلة، فإن كانت بين الأقارب فقد تكون سببًا في قطيعة الرحم، وهذه من أشد الذنوب، وإن كانت بين الزوج وزوجته فالرجوع فيها من أحدهما ربما يكون سببًا للجفاء، وعدم الود بينهما، وهذا الود مطلب من مطالب الزواج، وإن كانت الهبة لصدقة ففي الرجوع فيها إبطال للصدقة ومَنٌّ بها، وقد نهى الله عن ذلك في قوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} [البقرة: 264]، ولهذا مثّل رسول الله -ﷺ- العائد في هبته بالكلب الذي يقيء، ثم يعود في قيئه، وهذا مثل سيئ.

وخلاصة المسألة:‏ أن الهبة أو الهدية مبنية أصلًا على حسن الصلة، فإذا رجع الواهب في هبته فربما أفسد هذه الصلة، فإن كانت بين الأقارب فقد تكون سببًا في قطيعة الرحم، وهذه من أشد الذنوب، وإن كانت بين الزوج وزوجته فالرجوع فيها من أحدهما ربما يكون سببًا للجفاء، وعدم الود بينهما، وهذا الود مطلب من مطالب الزواج، وإن كانت الهبة صدقة ففي الرجوع فيها إبطال للصدقة ومَنٌّ بها، وهذا معارض لقول الله  -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}.

وأما سؤال الأخت فإن كانت لم تبلغ أختها بالهبة، وإنما كانت في معنى النية فلا جناح عليها حينئذ؛ لأنه لا يوجد هبة بالمعنى الصحيح، أما إن كانت قد أبلغتها بما ستهبه لها فلا يجوز لها الرجوع في هبتها، ولو كانت هذه الأخت غنية؛ لأن هذا الرجوع سيكون سببًا في الخلاف وقطيعة الرحم، وهذا من أشد الذنوب.

والله – تعالى- أعلم.

 

 

([1]) المعجم الوسيط ج1 ص1095.

([2]) تكملة فتح القدير لابن الهمام ج7 ص113.

([3]) ينظر في هذا الفتاوى الهندية ج4 ص430-437.

([4]) القوانين الفقهية لابن جزي ص241-242، وينظر:‏ بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج2 ص332-333، والخرشي على مختصر سيدي خليل ج4 ص113-114، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير لابن عرفة ج4 ص110، وفتح الجليل على مختصر خليل ج4 ص104.

([5]) روضة الطالبين للإمام النووي ج5 ص378-387، والمهذب للشيرازي ج1 ص447.

([6]) الشرح الكبير مع المغني لابن قدامة ج6 ص277-278، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ج4 ص298.

([7]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج2 ص333.

([8]) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار ج4 ص79.

([9]) أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، برقم (2589) فتح الباري ج5 ص256.