والسؤال عما إن كان بيع هذا الصبي ملزِمًا لأبيه أو لا، خاصة أنه يعد مميزًا كما ورد في السؤال؟.
والجواب: أن التمييز في اللغة مأخوذ من الميز، وهو التمييز بين الأشياء، وتمييز الشيء: عزله وفرزه عن بعضه، وتَمَيَّزَ الشيءُ: انفصل عن غيره([1]).
أما في الفقه فقد عرفت المادة (943) من مجلة الأحكام العدلية الصبي المميز بأنه: “من يعرف أن البيع سالب، والشراء جالب، ويقصد الربح، ويميز بين الغبن الفاحش والغبن اليسير”([2]).
وقد عنيت الشريعة بموضوع العاقد، وقدرته على التصرف بالبيع والشراء ونحو ذلك من سائر التصرفات؛ لما في ذلك من نتائج تنعكس آثارها على المتعاقد الآخر حَسَنِ النية، فقد ورد في كتاب الله قوله -تعالى-: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، والسفه يطلق على عدة معان، منها: جهل الإنسان بالأحكام، وعدم القدرة على التصرف الصحيح؛ لما يترتب على ذلك من ضياع المال الذي جعله الله صلاحًا لمعاش الإنسان.
والسفه يقتضي الحجر على صاحبه، فتنقل منه الولاية على نفسه إلى غيره؛ لضبط تصرفاته، وحفظ أمواله، وحماية غيره، وفي ذلك قال الله -تعالى-: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282].
ولأهمية شرعية تصرفات الإنسان، وما ينبغي من الحفاظ على حقوقه، وحقوق المتعاملين معه فقد عُنِي الفقهاء بأهلية العاقد، بحيث يكون عاقلًا مدركًا لتصرفاته فيما يخص نفسه، ويخص غيره.
ففي مذهب الإمام أبي حنيفة: يجب أن يكون العاقد عاقلًا، فلا ينعقد بيع المجنون، ولا الصبي الذي لا يعقل؛ لأن أهلية المتصرف شرط لانعقاد تصرفه، أما البلوغ فلا يعد شرطًا لانعقاد البيع([3]).
ولم تكتف مجلة الأحكام العدلية بكلمـة “العاقل”، بل بينت ذلك بأنه المميز، فقـد نصت المــادة (361) على أنـه “يشترط في انعقاد البيع صدور ركنيه من أهله، أي: العاقل المميز، وإضافته إلى محل قابل لحكمه”([4]).
وفي مذهب الإمام مالك: يشترط في انعقاد البيع أن يكون العاقد مميزًا، ويترتب عليه ألا ينعقد بيعُ أو شراءُ مَنْ لم يكن مميزًا، سواءٌ كان ذلك لصغر أو جنون أو إغماء..، ويعرَّف التمييز بأنه “فهم مقاصد العقلاء بالكلام، وحسن رد جوابه، لا مجرد الإجابة بالدعوة، والانصراف بالزجر”([5]).
ويعد البلوغ شرطًا في بيعِ مِلْكِ نفسه، أما في بيع ملك غيره بالوكالة فلا يشترط فيه البلوغ، وفي جميع الأحوال يعد بيع الصغير والمجنون باطلًا بحكم عدم التمييز.
وفي مذهب الإمام الشافعي: يصح البيع من البالغ العاقل، فأما الصبي والمجنون فلا يصح بيعهما؛ لأنه تصرف في المال، فلم يفوض إليهما([6]).
وفي مذهب الإمام أحمد: يجب أن يكون العاقد جائز التصرف، وهو المكلف الرشيد، وفي رواية عن الإمام أحمد يصح تصرف المميز، ويقف على إجازة وليه، وعنه يصح مطلقًا، وفي رواية أخرى في المذهب لا يصح تصرفهما إلا في الشيء اليسير.
والمعتمد في المذهب صحة تصرف الصبي المميز والسفيه بإذن وليهما([7]).
ويكون تصرف الصبي المميز المدرك في حدود التدريب والاختبار، لا في أمور كبيرة، وصفقات عالية، كما قال -تعالى-: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى}.
قلت: ويتبين من المسألة أن والد الصبي يطعن في تصرف ولده ببيع الأرض، وقد يكون هذا الطعن تهربًا من نفاذ تصرفه؛ لمظنة غبن في صفقة البيع، أو بقصد العدول عنها؛ ترقبًا لسعر أعلى مما بيعت به الأرض، والتعاطي في بيع الأراضي ليس بالأمر اليسير، فيفترض فيمن يتعاطى البيع فيها أنه يعرف أثمانها، ومواقعها على الخرائط، ويعرف مساحاتها، وحدودها، وما قد يتعلق بها.
ولهذا يفترض في والد الصبي في المسألة أنه قد أَنِسَ منه رشدًا وإدراكًا لمعنى البيع والشراء، وإلا لما ترك له المحل يتصرف فيه، ويتعامل مع الذين يقصدونه، كما يفترض في المشتري أنه حسن النية حين اشترى من بائع يعتقد قدرته على التصرف كما يبدو له من مظهره وسلوكه، وإدراكه لما يتصرف فيه.
فالقضية إذن “مسألة وقائع” يقدرها القضاء فيما يتعلق بقدرة الصبي على التمييز، ومعرفته أن البيع سالب، وأن الشراء جالب، ويقصد الربح، ويميز بين الغبن الفاحش، والغبن اليسير([8]).
كما يقدر القضاء مقدار الغبن الذي يدعيه والده، وما ينبغي من حماية البائع حسن النية؛ حفظًا للحقوق، واستقرار المعاملات ودفع الخصومات.
وخلاصة المسألة: أنه نظرًا لأهمية شرعية تصرفات الإنسان، وما ينبغي من الحفاظ على حقوقه وحقوق المتعاملين معه، فقد اهتم الفقه بأهلية العاقد، سواءٌ كان بائعًا، أم مشتريًا، أم متصرفًا، فأوجب أن يكون هذا عاقلًا يدرك نتائج تصرفاته، فلا ينعقد عندئذ بيعُ مَنْ لم يكن مميزًا، سواء كان ذلك لجنون، أم صغر، أم إغماء.
ولما كان بيع قطع الأراضي من الأمور غير السهلة، فيفترض في والد الصبي في المسألة أنه قد أنِس منه رشدًا وإدراكًا لمعنى البيع والشراء، وإلا لما ترك له المحل يتصرف فيه، ويتعامل مع الذين يقصدونه، كما يفترض في المشتري أنه حسن النية حين اشترى من بائع يعتقد قدرته على التصرف.
فالقضية إذن “مسألة وقائع” يقدرها القضاء فيما يتعلق بقدرة الصبي على التمييز، ومعرفته أن البيع سالب، وأن الشراء جالب، وأنه يميز بين الغبن الفاحش والغبن اليسير.
والله أعلم.
([1]) لسان العرب لابن منظور، ج5، ص412، والمصباح المنير للفيومي، ج2، ص587.
([2]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج2، ص583 – 584، وانظر: القاموس الفقهي لسعدي أبو جيب، ص207.
([3]) بدائع الصنائع للكاساني، ج5، ص 135-136، وحاشية رد المحتار لابن عابدين، ج5، وانظر: الاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي ج2، ص 4.
([4]) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، ج1، ص324 – 326.
([5]) شرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش، ج4، ص437-440، وانظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، ج4، ص241-244، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ج2، ص328، وبلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للدردير، ج2، ص4-5، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي، ج3، ص 5-6.
([6]) المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي، ج1، ص357، ونهاية المحتاج للرملي، ج3، ص385، والمجموع للنووي، ج9، ص149، والوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي، ج1، ص133.
([7]) الإنصاف للمرداوي، ج4، ص267-269، تحقيق محمد حامد الفقي، وكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، ج3، ص 151، والمغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج4، ص6-7.